خطبة عن نهاية شهر شعبان .. يعد شعبان شهر العطية الربانية التي يمنحها الله لأمة محمد -عليه الصلاة والسلام-، وهو شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين؛ وتتجلى فيه رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده، فيهبهم من خزائن خيراته، ويجزل لهم فيه من عطياته.

خطبة عن نهاية شهر شعبان

إِنَّ الْحَمْدَ للهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ مَنْ بَعَثَهُ اللهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ هَادِيًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا بَلَّغَ الرِّسَالَةَ وَأَدَّى الأَمَانَةَ وَنَصَحَ الأُمَّةَ فَجَزَاهُ اللهُ عَنَّا خَيْرَ مَا جَزَى نَبِيًّا مِنْ أَنْبِيَائِهِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى كُلِّ رَسُولٍ أَرْسَلَهُ.

أَمَّا بَعْدُ عِبَادَ اللهِ، فَإِنِّي أُوصِيكُمْ وَنَفْسِيَ بِتَقْوَى اللهِ الْعَلِيِّ الْقَدِيرِ الْقَائِلِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ: ﴿الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ﴾ [ءَال عِمْرَان/ 17]. ويقولُ: ﴿يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الْحَجّ/ 77].

إِخْوَةَ الإيِمَانِ وَالإِسْلاَمِ: لَقَدْ هَلَّ عَلَيْنَا شَهْرُ شَعْبَانَ لِيُقَرِّبَنَا أَكْثَرَ وَأَكْثَرَ مِنْ رَمَضَانَ شَهْرِ الْخَيْرَاتِ فَانْظُرُوا رَحِمَكُمُ اللهُ كَيْفَ كَانَ حَالُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَعْبَانَ، فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرَ مَا يَصُومُ فِي شَهْرِ شَعْبَانَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: “كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ لاَ يُفْطِرُ وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ لاَ يَصُومُ فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ إِلاَ رَمَضَانَ وَمَا رَأَيْتُهُ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ”، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وعَنْ حِبِّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ، قَالَ: “ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ” أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِى شُعَبِ الإيِمَانِ.

وَأَمَّا حَالُ السَّلَفِ الصَّالِحِ فِي شَعْبَانَ فَهُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا دَخَلَ شَهْرُ شَعْبَانَ، أَقْبَلُوا عَلَى مَصَاحِفِهْمِ فَقَرَأُوهَا، وَأَخْرَجُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ لِيُعِينُوا غَيْرَهُمْ عَلَى طَاعَةِ اللهِ فِي رَمَضَانَ. وَتَرَكُوا الْكَثِيرَ مِنْ مَشَاغِلِ الدُّنْيَا، وَأَخَذُوا يَسْتَعِدُّونَ فِيهِ لاِسْتِقْبَالِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَأَكْثَرُوا فِيهِ مِنَ الصِّيَامِ وَالذِّكْرِ وَالْقِيَامِ، وَكَانُوا يَقُولُونَ عَنْ شَهْرِ شَعْبَانَ إِنَّهُ شَهْرُ الْقُرَّاءِ.

إِخْوَةَ الإيِمَانِ وَالإِسْلاَمِ: وَفِي هَذَا الشَّهْرِ الْكَريِمِ لَيْلَةٌ عَظِيمَةٌ بَرَكَاتُهَا، كَثِيرَةٌ خَيْرَاتُهَا هِيَ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَقَدْ وَرَدَتْ فِي فَضِيلَتِهَا أَحَادِيثُ نَبَوِيَّةٌ عَدِيدَةٌ تَحُضُّ عَلَى اغْتِنَامِهَا وَالتَّعَرُّضِ لَهَا، مِنْهَا مَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: “إِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَقُومُوا لَيْلَهَا وَصُومُوا نَهَارَهَا” وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا إِلاَّ أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَدْ قَرَّرُوا أَنَّ الْحَدِيثَ الضَّعِيفَ يُعْمَلُ بِهِ إِنْ كَانَ فِيهِ حَثٌ عَلَى فَضَائِلِ الأَعْمَالِ وَانْدَرَجَ تَحْتَ أَصْلٍ صَحِيحٍ مِنْ أُصُولِ الشَّرْعِ، كَذَلِكَ فَإِنَّ الإِمَامَ ابْنَ حِبَّانَ قَدْ صَحَّحَ بَعْضَ الأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي فَضِيلَةِ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ وَأَوْرَدَهَا فِي صَحِيحِهِ، كَحَدِيثِ “يَطَّلِعُ اللهُ إِلَى خَلْقِهِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلاَّ لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ”. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الأَوْسَطِ وَالْبَيْهَقِيُّ، وَالْمُشَاحِنُ مَعْنَاهُ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُسْلِمٍ ءَاخَرَ عَدَاوَةٌ وَحِقْدٌ وَبَغْضَاءُ، أَمَّا مَنْ سِوَى هَذَيْنِ فَكُلُّ الْمُسْلِمِينَ يُغْفَرُ لَهُمْ يُغْفَرُ لِبَعْضٍ جَمِيعُ ذُنُوبِهِمْ وَلِبَعْضٍ بَعْضُ ذُنُوبِهِمْ.

فَلَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ هِيَ لَيْلَةٌ مُبَارَكَةٌ وَأَكْثَرُ مَا يَبْلُغُ الْمَرْءُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ أَنْ يَقُومَ لَيْلَهَا وَيَصُومَ نَهَارَهَا وَيَتَّقِي اللهَ فِيهَا، وَلَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ كَانَ التَّابِعُونَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ كَخَالِدِ بنِ مَعْدَانَ وَمَكْحُولٍ وَلُقْمَانَ بنِ عَامِرٍ وَغَيْرِهِمْ يُعَظِّمُونَهَا وَيَجْتَهِدُونَ فِيهَا فِي الْعِبَادَةِ.

وَقَالَ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِهِ الأُمِّ: وَبَلَغَنَا أَنَّهُ كَانَ يُقَالُ: إِنَّ الدُّعَاءَ يُسْتَجَابُ فِي خَمْسِ لَيَالٍ فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ، وَلَيْلَةِ الأَضْحَى، وَلَيْلَةِ الْفِطْرِ، وَأَوَّلِ لَيْلَةٍ مَنْ رَجَب، وَلَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ “اهـ

وَلْيُعْلَمْ أَنَّ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ لَيْسَتِ اللَّيْلَةَ الَّتِي قَالَ اللهُ فِيهَا: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَـٰهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَـٰرَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾[الدُّخَان: 3، 4] بَلْ هِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ كَمَا قَالَ تَرْجُمَانُ الْقُرْءَانِ عَبْدُ اللهِ بنُ عَبَّاسٍ وَهَذَا مَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ.

إِخْوَةَ الإيِمَانِ وَالإِسْلاَمِ: وَمِمَّا يَنْبَغِي الاِنْتِبَاهُ مِنْهُ دُعَاءٌ اعْتَادَ بَعْضُ النَّاسِ عَلَى تَرْدَادِهِ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ وَهُوَ: “اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ كَتَبْتَنِي عِنْدَكَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ شَقِيًّا أَوْ مَحْرُومًا أَوْ مَطْرُودًا أَوْ مُقَتَّرًا عَلَيَّ فِي الرِّزْقِ فَامْحُ اللَّهُمَّ بِفَضْلِكَ شَقَاوَتِي وَحِرْمَانِي وَطَرْدِي وَإِقْتَارَ رِزْقِي …” فَهَذَا اللَّفْظُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابِةِ الْكِرَامِ. وَيَجِبُ الاِعْتِقَادُ أَنَّ مَشِيئَةَ اللهِ أَزَلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ لاَ يَطْرَأُ عَلَيْهَا تَغَيُّرٌ وَلاَ تَحَوُّلٌ كَسَائِرِ صِفَاتِهِ كَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَتَقْدِيرِهِ وَغَيْرِهَا، فَلاَ تَتَغَيَّرُ مَشِيئَةُ اللهِ بِدَعْوَةِ دَاعٍ أَوْ صَدَقَةِ مُتَصَدِّقٍ أَوْ نَذْرِ نَاذِرٍ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَعْتَقِدَ الإِنْسَانُ أَنَّ اللهَ تَحْدُثُ لَهُ مَشِيئَةٌ جَدِيدَةٌ أَوْ عِلْمٌ جَدِيدٌ، وَمَنْ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ فَقَدْ فَسَدَتْ عَقِيدَتُهُ، فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ ثَوْبَانَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “سَأَلْتُ رَبِّي ثَلاَثًا فَأَعْطَانِي ثِنْتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً” وَفِي رِوَايَةٍ: “قَالَ لِي يَا مُحَمَّدُ إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لاَ يُرَدُّ