مقدمة : بحث حول موانع المسؤولية الجنائية في القانون الجزائري
إن المسؤولية الجنائية يقصد بها إلتزام الشخص بتحمل النتائج القانونية المترتبة على أفعاله وقت صدورها منه، وهو في تلك الحالة يتمتع بكامل أهليته الشرعية والقانونية، فيتحمل تبعة الجريمة بالخضوع للجزاء الجنائي المقرر لها شرعا أو قانونا، فالمسؤولية الجنائية بهذا الإعتبار ليست ركنا للجريمة، أو عنصرا من عناصر قيامها، إنما هي أمر لاحق لقيام الجريمة بكافة أركانها على حسب درجتها الشرعية من قصاص أو حد أو تعزير، أو درجتها القانونية من جناية، أو جنحة، أو مخالفة، ولكن قد يفقد الشخص قدرته على التمييز، أو الاختيار، أو كليهما معا، فيصير غير أهل لتحمل تبعة أفعاله الصادرة عنه، فلا يكون محلا لتوقيع العقوبة المقررة، أي غير أهل لتحمل المسؤولية الجنائية، وهذا ما يسمى بموانع المسؤولية الجنائية التي لا تمحو الصفة الإجرامية عن الفعل، بل يبقى الفعل في نظر القانون والشرع جريمة، لكن تمتنع معاقبة الفاعل لسبب يقوم في شخصه لاعتبارات قررها الشرع والقانون نفسه.
لعل أبرز دور للقانون أنه يسعى إلى تحقيق العدل والمساواة في المجتمــــع ولحماية المجتمع يسعى إلى تحديد المسؤوليات حيث أنه كل شخص إرتكب فعل أضر به الغير يحمله المسؤولية، إلا أن هناك بعض الحالات التي يرتكب فيها الشخص أفعالا إلا أن القانون ينبغي عليه المسؤولية و الحالات المشابهة و هذا لمعالجة الفصل نتطرق إلى دراسة موانع المسؤولية الجزائية في المبحث الأول من حيث إنعدام الأهلية والمبحث الثاني من حيث إنعدام الإرادة.
خطة البحث
مقدمة
المبحث الأول : موانع المسؤولية الجزائية بسبب إنعدام الأهلية
المطلب الأول : عدم قيام المسؤولية الجنائية بسبب الجنون
المطلب الثاني : صغر السن (الحدث)
المبحث الثاني : موانع المسؤولية الجنائية بسبب إنعدام الإرادة
المطلب الأول : الإكراه كمانع لقيام المسؤلية الجنائية
المطلب الثاني : حالة الضرورة ورضي المجني عليه كمانع لقيام المسؤولية الجنائية.
خاتمة
المبحث الأول: موانع المسؤولية الجزائية بسبب إنعدام الأهلية
لما كان الشخص مفروض عليه القيام بمجمل الأعمال شأنه بقية الأفراد، فكان مسؤولا عما يحدثه من ضرر نتيجة قيامه بأفعال نظرا لأنها مخالفة للقانون. ونتيجة لذلك فلا تكون هذه المسؤولية إلا إذا كان الشخص يتوافـــر علــى الإدراك و الإرادة.
لكن نجد أن هناك أشخاص من يقومون بجرائم، ولكن توفر لهم الحماية بعدم العقاب، أو هو ما يسمى بموانع المسؤولية الجزائية ونتطرق لدراسة هذا المبحث في المطالب الأتية بيانها :
المطلب الأول: عدم قيام المسؤولية الجنائية بسبب الجنون
إن من الحالات التي تنعدم فيها المسؤولية الجزائية هي حالة الجنون، وهي الحالة التي يفتقد فيها مرتكب الجريمة أثناء قيامه بفعله للإدراك والتمييز.
الفرع الأول: تعريف الجنون
تنص المادة 47 ق ع على مايلي : ” لا عقوبة على من كان في حالة جنون وقت ارتكاب الجريمة و ذلك دون الإخلال بأحكام الفقرة 02 من المادة 21.
تعريف الجنون أو عاهة العقل:
يقصد بالجنون بالمفهوم الطبي أنه المرض الذي يصيب المخ ويعطله من النشاط العادي، فيدفعه إلى مسار مغاير لأصله بأرض الواقع، فيشل الملكات الذهنية كليا أو جزئيا، مؤبدا أو مؤقتا. ويعني التأبيد استمرار فقد المصاب بالجنون لحالة رشده. أما التأقيت فإنه يعني تخلل حالات عطل للملكات الذهنية كحالات إفاقة يعود فيه الجنون إلى رشده.
ويعرفه البعض على أنه ” كل آفة تعتري الإنسان فتؤثر على أجهزته أو قواه التي تهيمن على إدراكه أو اختياره فتفسد أحدهما أو كلاهما سواء كانت هذه الآفة أصلية أو عارضة سواء تمثلت في مرض عقلي أو عصبي أو نفسي أو عضوي”.
ويرى البعض أن الجنون يقصد به ” إضطراب في القوى العقلية يفقد المرء القدرة على التمييز أو على السيطرة على أعماله والبعض الآخر جعل الجنون هو “من كان في حالة تفقده الوعي و تجعله غير قادر على التمييز في أفعاله”.
ومن خلال التعاريف السابقة التي تطرقت إليها معظم التشريعات فالجنون و العاهة العقلية هما اللذان يجعلان من الجاني فاقد الشعور و الاختيار و بالتالي يفقد صاحبه مناط المسؤولية الجزائية التي تعتمد على حرية الاختيار و التمييز.
أما سائر الأمراض و الأحوال النفسية التي لا تفقد الشخص شعوره أو إدراكه و حرية اختياره فلا تعد من قبيل ذلك، وبالتالي لا تنعدم بها المسؤولية الجزائية.
و قد خول القانون الجزائي القاضي الجزائي الفصل فيما إذا كان المتهم تحت تأثير إضطراب نفسي أو عصبي نفساني وقت ارتكاب الجريمة، ومن ثم فإن تحديد فقدان حرية الإختيار والإدراك مسألة وقائع متروكة لتقدير قضاة الموضوع.
والجنون بمفهومه العام يشمل كل نقص في الملكات الذهنية فهو يشمل كل حالات الأمراض النفسية والعصبية التي تلحق بالمرء و تضعف عقله. فسواء تعلق الأمر بغتة أي نقص في نضج الإدراك، أو بآفة في الشعور كالهستيريا أو النورستانيا أو يخلل في وظيفة الإرادة كما في الصرع و في جنون الفكرة المتسلطة، فإن ما يتم مراجعته بين كافة صور الجنون هو أن الإرادة تنعدم حريتها فيكون صاحبها مقهور نفسيا وداخليا إلى سلوك معين لا توجد لديه القدرة على تحاشيه “.
ووفقا لنص المادة 47 من قانون العقوبات الجزائري التي جعلت الجنون كل حالات إضطراب القوى العقلية التي يزول بها التمييز وحرية الاختيار، وذلك فقد جعل بعض الفقه فمن حالة الجنون حالات أو أمراض عقلية أخرى تعدم المسؤولية الجزائية و هذه الأمراض العقلية هي:
- العته و العلة الشديدة: وهو مرض يصاب به المريض، وهو أن يقف النمو العقلي عند سن الطفولة غير المميزة، ولا يتعداها فيظل فاقد الإدراك والتمييز.
- جنون الشيخوخة: و هو مرض يصيب بعض الأشخاص في سن الشيخوخة نتيجة لتصلب الشرايين وضعف خلايا المخ، ويبدو فيه المرض وقد فقد كل إهتمامه بالعالم المحيط به.
- جنون العظمة: وفيه يكون المريض تحت سيطرة أفكار متسلطة يعتقد معه أنه عظيم أو أنه ضحية إضطهاد كسمو شأنه، ويتعرض المريض به للهلوسة والتخيلات السمعية البصرية.
- الفصام العقلي: فتسيطر على المريض أفكار معينة تلح عليه ويعاني من شعور بالإضطهاد، ويكون بذلك مصابا بحالة تفكك في تفكيره فلا تنسق أفعاله ولا تتسم بالتماسك أو الإتزان، ويسمى بالفصام أي التفكك في العقلية فالملكات الذهنية التي يتمتع بها تكون عاطلة.
- الصرع: فيصاب المريض بنوبات يفقد فيها وعيه وذاكرته، ولا يسيطر على الحركات الإرادية لأعضائه في نوبات يفقد فيها المريض رشده.
ويضيف البعض الآخر إلى جانب الحالات السابقة اليقظة النومية، فيقوم المصاب بها من نومه ويأتي أفعالا لا يشعر بها، وبذلك فتدخل ضمن حالة الجنون كل العلل العقلية التي تؤدي بصاحبها إلى فقدان الوعي والتمييز، وهذا الرأي يتناسب مع مقتضى نص المادة 47 من قانون العقوبات الجزائري التي تتكلم عن حالة الجنون ترجعنا إلى نص المادة 21 من قانون العقوبات الجزائري التي تتكلم عن الخلل العقلي مما يوصي لنا بأن القانون يتكلم عن الحالتين بمعنى واحد، ومع ذلك فالشخص الذي يصاب بمرض من هذه الأمراض، ولكن مع ذلك لا يفقد وعيه و إرادته فإنه لا يعد مجنونا و لا تسقط مسؤولية عن أعماله الإجرامية .
في حين لا يدخل ضمن هذا المفهوم (الجنون بمعناه الرابع) التنويم المغناطيسي حيث لا تبعد المسؤولية عن الشخص الذي إرتكب جريمة تحت تأثير تنويم مغناطيسي إلا إذا أثبت أن منومه قد سلب منه حريته وقت إرتكاب العمل الإجرامي، وأنه لم يكن إلا وسيلة سلبية لإرادة الغير.
كما لا يدخل السكر وتناول المخدرات ضمن موانع المسؤولية لسبب فقدان الوعـي، ومن ثمة يعاقب بالعقوبات المقررة قانونا كل من إرتكب جريمة وهو في حالة سكـر أو تحت تأثير مادة مخدرة تناولها عن علم و إرادة. أي أنه بعد السكر وتأثير المخدرات من الظروف المشددة للجريمة كما هو الحال في جرائم القتل أو الجرح الخطأ.
كما قضت كذلك المادة 66 من القانون رقم 01 .14 المؤرخ في 14-08-2001 المتعلق بتنظيم حركة المرور عبر الطرق و سلامتها و أمنها .
و نجد أيضا من مصطلحات الجنون المتداولة، الجنون المستمر و الجنون المتقطع. فقد ذهبت معظم التشريعات إلى التفرقة أو إلى أن الجنون قد يكون مستمرا كما قد يكون متقطعا. فبالنسبة إلى الجنون المستمر وباعتباره يفقد التمييز والإدراك فهو بالتالي يمنع من قيام المسؤولية الجزائية.
أما بالنسبة للجنون المتقطع فالرأي الراجح أنه إذا اقترفت الجريمة في الإفاقة فيبقى الفاعل مسؤولا جزائيا و إن كانت حالته تدعو إلى الرأفة.
الفرع الثاني: شروط الجنون
يترتب على الجنون إنعدام المسؤولية الجزائية فيعفي المجنون من العقوبة، ولا تتخذ ضده إلا تدابير علاجية تتمثل في وضعه في مؤسسة نفسية متخصصة. وحتى يكون الإعفاء من العقوبة كاملا ينبغي توفر الشروط التالية :
1- فقدان المجنون للوعي و الاختيار
إن مسالة إمتناع المسؤولية الجزائية وعدم معاقبته أمر متوقف على أثر حالة المجنون على الوعي المصاب به و إرادته إذا كانت العلة متوافرة وامتنع قيام المسؤولية الجزائية على المجنون.
و هذا ما عبر عنه بعض الفقهاء فاشترط من أن يكون جنونا قائما أي أن تكون الإضطرابات العقلية من الجسامة بحيث يعدم الشعور و الإختيار كليا، وهذه المسألة موضوعية يرجع تقديرها لقضاة الموضوع خلال إجرائهم لخبرة طبية. أي أن صلة عدم مسألة الشخص المجنون مرتبطة إرتباطا وثيقا بفقده للشعور والإختيار.
ومنه فان الجنون الذي يقتصر تفعيله على إضعاف الوعي والاختيار لا يصلح لأن يكون مانعا من موانع المسؤولية الجزائية. وهذا ما تكلم عنه المشرع الجزائري على انعدام الأهلية للإضطراب العقلي في حالة الجنون ولا يتكلم على حالة نقص الأهلية، فمن الناس من يصاب بإضطراب عقلي ينقص من إدراكه فيكون شبه مجنون بالأخص المصاب بالهستيريا والصم والبكم. فمثل هؤلاء الأشخاص يعدون مسؤولون جزائيا وهذا ما نص عليه المشروع التمهيدي لقانون العقوبات الجزائري سنة 1997 بنصه : “من كان مصابا وقت إرتكاب الجريمة بإضطراب نفساني أو عصبي أو نقص وعيه أو عرقل سيطرته على أفعاله……يكون مسؤولا جزائيا عن أفعاله “.
ويتضح من ذلك أن فقد الشعور أو الإختيار هو علة إمتناع المسؤولية الجزائية، إذا كان الفقد بسبب الإضطراب العقلي أو الجنون. كما أن قاضي الموضوع هو الذي يقدر مدى ما توافر للمتهم من تمييز وحرية الإختيار عند إرتكاب الفعل، وما إذا كان يكفي لمسائلته عن الجريمة المرتكبة أو أنه دون القدر اللازم لذلك، ويلجأ القاضي في تحديد مدى تمييز وحرية إختيار المتهم عند إتيان فعله إلى أهل الخبرة الفنية (الخبرة الطبية) وفي المقابل يكون الشخص الذي هو تحت الإضطراب العقلي الجزئي مسؤولا مسؤولية جزائية وبشكل مخفف رغم فقد الشعور والإختيار النسبي أو الجزئي.
2- معاصرة الجنون لإرتكاب الجريمة
فقد أشارت معظم التشريعات على هذا الشرط شرط معاصرة الجنون لإرتكاب الجريمة وهو أمر منطقي فحتى تقام وتؤسس مسؤولية الجاني أو مرتكب الجريمة فلا بد من تحديد عدة أمور وقت ارتكاب الجريمة.
وبالتالي لا أثر للجنون السابق على إرتكاب الجريمة إذا ثبت أن الجاني كان مصابا بالجنون و لكنه شفي منه قبل إرتكاب الجريمة. كما أقر البعض على أنه إذا أصيب المتهم بالجنون عقب إرتكاب الجريمة فإن ذلك لا يؤثر في إنعقاد المسؤوليته الجزائية عن الجريمة، ولا أهمية لسابق إصابة المتهم بالجنون طالما ثبت أنه كامل الإدراك أو التمييز وحرية الإختيار وقت إرتكاب الجريمة. كما إستقرت معظم التشريعات على أنه لا يحقق الجنون أثره في منع المسؤولية الجزائية إلا إذا كان فقد الشعور وحرية الإختيار لأن الجنون قد عاصره لحظة إرتكاب الجريمة .
ويترتب عن ذلك أن المتهم الذي فقد الشعور وحرية الإختيار بسبب إظطرابه العقلي أو الجنون قبل إرتكاب الجريمة، يسأل عن هذا الفعل المنافي للقانون والمضر بالمجتمع متى ثبت أنه كان قد شفي تماما من الجنون، وأصبح متمتعا بكل تمييزه وإختياره وقت إرتكابه الفعل الإجرامي .
هذا إذا كان المجنون مستمرا أما إذا كان متقطعا وإرتكب المتهم الجريمة أثناء إصابته بالنوبة (الجنون المتقطع) إمتنعت المسؤولية الجزائية عنها (عن فعله المجرم قانونا)، أما إذا إرتكب المتهم الجريمة خلال فترة الإفاقة الكاملة تحققت المسؤولية الجزائية عنها. ونظرة المشرع الجزائري في معاصرة الجنون لإرتكاب الجريمة هو ما يستكشف من حكم المادة 47 من قانون العقوبات الجزائري “و قت إرتكاب الجريمة “. فلا أثر للجنون في المسؤولية الجزائية إذا طرأ قبل إرتكابها ولا أثر له فيها أيضا إذا طرأ بعد الجرمة.
ومتى إتضح وجود الجنون من جهة وثبتت معاصرته لحظة إرتكاب الجريمة من جهة أخرى إستبعد العقاب بالتالي وكنتيجة حتمية أيا كانت الجريمة المرتكبة وإنما حق التدبير الوقائي إذا كانت الجريمة جناية أو جنحة عقوبتها الحبس. أما إذا كانت العقوبة منسوبة إلى مجنون المخالفة لا يحكم عليها بالحبس وإنما يحكم عليها بالبراءة.
الفرع الثالث: ثبوت الجنون
بإعتبار أن الجنون هو حالة تنعدم فيها المسؤولية الجزائية فلا شك أنه ليس بأمر من السهل إثباته وثبوت الجنون عن عدمه حالة واقعية يمكن إرجاعها لذوي الخبرة والإختصاص لتقرير وجودها أو عدم وجودها، وتمييز حالة المرء العاقل من المرء المجنون. ولا شك أن القاضي الموضوع هو المختص في تحديد مدى توافر شروط إمتناع المسؤولية الجزائية للمتهم لإصابته بالجنون، فعليه أن يتحقق من وجود المرض لدى المتهم وقت إرتكاب الجريمة كما أقر البعض على أنه للقاضي الإستعانة بالخبراء في علم الطب العقلي لفحص المتهم والفصل في حالته العقلية.
وإذا تبين بعد الفحص الطبي و تم إثبات أن المتهم ليس مجنونا وكان يتصنع الجنون مثلا، فهنا مسؤولية قائمة ويعاقب بالعقوبة المقررة قانونا دون تخفيف. أما إذا اتضح أن المتهم مجنون حقيقة فإنه يلزم التثبت من أن جنونه هذا كان قائما وقت إرتكاب الجريمة لأن هذا الشرط إستبعد العقاب.
أما الجنون المتقطع ولأن القانون الحالي لا يضع له حكما خاصا لا يترتب على ثبوته سوى تخفيف العقوبة أو وقف تنفيذها. والقول بوجود الجنون أو تخلفه أمر موضوعي يبقى لقضاة الموضوع الفصل فيه.
الفرع الرابع: آثار الجنون
إن إمتناع المسؤولية الجزائية في المجنون بفقده للشعور و الإختيار عند قيامه بمختلف الأعمال ينتج عنه آثار نتيجة قيامه بعمل منافي للقانون، ولذالك وجدت عدة اثار للجنون نذكرها فيما يلي:
أولا: أثر إمتناع المسؤولية للجنون المعاصر
يترتب على حالة توفر الجنون المفقد للوعي والإرادة وقت إرتكاب الجريمة إمتناع المسؤولية الجزائية وإستحالة توقيع العقاب سواء كانت الجريمة جناية أو جنحة أو مخالفة أو كانت عمديه أو غير عمديه. ومع ذلك فقد تم تقرير بعض التدابير الإحترازية على الجنون وذلك حماية للمجتمع.
وبذلك فالمجنون الذي يقترف جناية أو جنحة مقصودة عقابها الحبس سنتين وقضي بعدم مسؤوليته للجنون حجز في مأوى إحترازي بموجب فقرة خاصة في حكم الإعفاء أما إذا كانت الجنحة غير المقصودة أو كان عقابها الحبس أقل من سنتين قضي حجز الفاعل في المأوى الإحترازي إذا ثبت أنه خطر على السلامة العامة، ويستمر الحجز إلى أن يثبت شفاء المجنون بقرار تصدره المحكمة التي قضت بالحجز ويمكن أن تفرض المراقبة على المحجوز عن تسريحه.
وأثار إمتناع المسؤولية شخصية فهي تقتصر على الشخص الذي توافرت فيه شروط إمتناع المسؤولية الجزائية دون غيره ممن ساهموا في الجريمة فاعلين كانوا أو شركاء، فعدم مساءلة من كان فاقد الشعور والإختيار لا تحول دون غيره ممن ساهموا معه في الجريمة فاعلين كانوا أو شركاء، فعدم مساءلة من من كان فاقد الشعور و الإختيار لا تحول دون مساءلة من ساهم معه (مع المجنون) في إرتكاب الفعل.
ويلاحظ أيضا أن إمتناع المسؤولية الجزائية كأثر لتوافر الجنون لا يتحقق إلا إذا كان فقد الشعور والإختيار غير راجع لإرادة الجاني، ويعني ألا يكون لإرادة الجاني دخل في حدوث فقد الشعور والإختيار ولا حدوث الأثر المترتب عن فقد الشعور والإختيار أما إذا كان للمجنون دخل في إعدام الإرادة والإدراك فإنه يكون من غير مقبول إعفاء المتهم من المسؤولية الجزائية عما يرتكبه من أفعال، سواء في ذلك المسؤولية العمدية أو غير العمدية ويحدث هذا الفرض مثلا في أحوال التنويم المغناطيسي فمن يقبل أن ينومه الغير تنويما مغناطيسيا مع علمه بأن من قام بتنويمه سوف يوجه أثناء الغيبوبة إلى إرتكاب الجريمة يسأل عن هذه الجريمة، كما يسأل عنها من قام بتنويم الفاعل وتوجيهه إلى إرتكاب الجريمة وتكون الجريمة عمدية في الحالتين.
كما يمكن أن يسأل المصاب بعاهة عقلية مسؤولية غير عمدية إذا أهمل في إتخاذ الإحتياطات اللازمة لمنع وقوع الفعل وهو تحت تأثير العاطفة، ويحدث هذا بالنسبة للشخص المصاب بعاهة متقطعة تتخذ صورة نوبات دورية تفصل بينهما فترات إفاقة مثل اليقضة النومية أو الصرع، فمن هو مصاب بمثل هذه العاهة ولم يأخذ الإحتياطات اللازمة التي تكون في إستطاعته منع وقوع أضرار أثناء إصابته بالنوبة يسأل عن هذا الفعل مسؤولية غير عمدية ومثال ذلك اليقظة النومية أو الصرع والذي يترك قرب فراشه أو في متناول يده أسلحة أو مواد ضارة ثم يستعملها في إرتكاب جريمة قتل أو إعتداء على سلامة الجسم أو نحو ذلك أثناء فقده للوعي والإختيار.
ثانيا: أثر الجنون الطارئ بعد ارتكاب الجريمة
يرى البعض أن الجنون إذا طرأ بعد إرتكاب الجريمة لا يكون له أثر في المسؤولية الجزائية لأن المتهم لا يكون قد فقد الشعور أو الإختيار وقت إتيان الفعل ومن ثمة تظل المسؤولية الجزائية قائمة، ومن ثمة فإن فقد الشعور أو الإختيار بعد إرتكاب الجريمة له تأثير في الإجراءات المتخذة في مواجهة مرتكب الجريمة، لأن إتخاذها في مواجهته يفترض إدراكه لها حتى تنتج الأثر الذي يرجوه القانون منها وهو ما لا يمكن تحققه إذا كان المتهم فاقد التمييز.
ولذلك فتزامن الجنون مع الجريمة لا يعني أن ليس للجنون أثر لو وقع بعد إرتكاب الجريمة فما هو تأثيره لو وقع بعد ارتكاب الجريمة؟
هناك عدة افتراضات منها:
- الجنون الطارئ بعد الجريمة و في أثناء المحاكمة:
تقتضي بعض التشريعات (المادة 339 من قانون الإجراءات الجزائية المصري) على أنه ” إذا ثبت أن المتهم غير قادر على الدفاع عن نفسه بسبب عاهة طرأت في عقله بعد وقوع الجريمة يوقف رفع الدعوى عليه أو محاكمته حتى يعود إلى رشده “.
ويجوز في هذه الحالة لقاضي التحقيق أو القاضي الجزائي بطلب من النيابة العامة أو المحكمة المنظورة أمامها الدعوى إذا كانت الواقعة جناية أو عقوبتهما الحبس وإصدار أمر بحجز المتهم في أحد المحال المعدة للأمراض العقلية إلى أن يتقرر إخلاء سبيله. ولكن محاكمة المتهم حين يعود إلى رشده شرطها ألا تكون الدعوى العمومية ضده قد سقطت بمضي مدة تقادمها على الوقت الذي أوقفت فيه بسبب الجنون واقفة لسريان مدة تقادم الدعوى، ولا يجوز إيقاف الدعوى بسبب جنون المتهم دون إتخاذ إجراءات التحقيق المستعجلة أو اللازمة والتي لا يتعين أن تكون في مواجهة المتهم كالمعاينة والتفتيش وسؤال الشهود”. وإذا تمت محاكمة المتهم وأدين بالعقوبة تعين أن تستنزل من مدة العقوبة المدة التي قضاها تحت الملاحظة أو في الحجز.
- الجنون الطارئ بعد الحكم النهائي:
قبل التطرق إلى الجنون الطارئ بعد الحكم بالإدانة نتطرق إلى الجنون الطارئ أثناء المحاكمة، وفي حالة توقف الجنون المحاكمة وتبدأ فترة الإنتظار أو ينتظر حتى يشفى المتهم من جنونه، فلا يجوز محاكمة من لا يستطيع الدفاع عن نفسه أو الحكم على من لا يفهم العقاب أما بالنسبة للجنون الطارئ بعد الحكم النهائي فيرى البعض و طبقا لنص المادة (487 من قانون الإجراءات الجزائية المصري) بأنه إذا أصيب المحكوم عليه بعقوبة مقيدة للحرية بجنون، وجب تأجيل تنفيذ العقوبة حتى يبرأ ويجوز للنيابة العامة أن تأمر بوضعه في أحد المحال المعدة للأمراض العقلية.
وفي هذه الحالة تستنزل المدة التي يقضيها في هذا المحل من مدة العقوبة المحكوم بها. والمقصود بالعقوبة المقيدة للحرية والتي يوقف الجنون تنفيذها طبقا لهذه المادة عقوبة الأشغال الشاقة والسجن والحبس أما العقوبة المالية أي الغرامة، فلا يوقف الجنون تنفيذها على أموال المجنون إنما لا يجوز تنفيذ الغرامة عليه بطريق الإكراه البدني وتنفيذ المصادر يعتبر ملكا للدولة فور النطق بها “وكان تنفيذ الإعدام يوقف في حالة الجنون – المحكوم عليه – غير أن المرسوم بقانون رقم 116 لسنة 1952 ألغى ذلك الإيقاف فصار غير حائل دون تنفيذ الإعدام له”.
الفرع الخامس: وضع المجنون في حجز قضائي
إذا ثبت جنون المتهم أو أي خلل عقلي يمنع مسؤوليته وقت وقوع الجريمة أو أن يكون المتهم قد أصابه خلل عقلي بعد إقترافه الجريمة فإنه يجوز للقاضي أن يأمر بوضعه في الحجز القضائي كتدبير أمن وقائي بموجب نص المادة 21 من قانون العقوبات الجزائري في نصها : ” الحجز القضائي في المؤسسة نفسية هو وضع الشخص ناء على قرار قضائي في المؤسسة مهيأة لهذا الغرض بسبب خلل في قواه العقلية قائم وقت إرتكاب الجريمة أو إعتراه بعد ارتكابها.
يمكن أن يصدر الأمر بالحجز القضائي بموجب أي حكم بإدانة المتهم أو العفو عنه أو ببراءته أو بعدم وجود وجه لإقامة الدعوى غير أن في هاتين الحالتين الأخيرتين يجب أن تكون مشاركته في الواقعة المادية ثابت يجب إثبات الخلل في الصادر بالحجز بعد الفحص الطبي “.
ما يفهم ويلاحظ من نص المادة 21 أعلاه أن حق إصدار الحكم بالحجز القضائي هو من إختصاص القضاة، أي السلطة التقديرية للقاضي، لا يجوز أن يوضع المتهم أو المحكوم عليه في الحجز القضائي بناء على قرار إداري وهذا إحتراما للحريات الشخصية المنصوص عليها في الدستور بإعتبار أن القاضي هو الحارس الأمين لتلك الحريات وحاميا للعدالة الإجتماعية فقد أوجب القانون ثبوت أن يكون المتهم المحكوم عليه بالبراءة أو عدم وجود وجه لإقامة الدعوى قد ثبت إشتراكه المادي في الواقعة الإجرامية، ومن جهة ثانية فقد أوجب القانون أن يخضع المتهم المراد وضعه في الحجز القضائي أمر بالتدبير دون اللجوء إلى الفحص الطبي لإثبات الخلل العقلي وهنا نلاحظ إعادة المشرع ضرورة إخضاع المتهم للفحص الطبي وإلزام القاضي بذلك وعليه فيجب علينا القيام بالعناية الكاملة واللازمة التي تدعوا إليها حالته العقلية فالمقصود هنا هو معالجته كمريض لا معاقبته كمجرم.
ومن زاوية ثالثة فتطبيقا للقواعد فإننا نرى أنه لا يجوز أن يوضع المجنون المبرأ تلقائيا في الحجز القضائي ولو بحكم قضائي وبعد إجراء فحص طبي إذ لم يكن يخشى منه إرتكاب الجرائم فهنا توقيع التدبير هو بدافع الخطورة الإجرامية التي يوجد عليها و بغياب هذه الخطورة فلا مجال لتوقيع التدابير.
وأخيرا إذا أردنا أن نعطي دراسة مقارنة بين رؤية القانون الفرنسي و الجزائري كمانع المسؤولية فنقول على خلاف القانون الفرنسي الذي جعل من المجنون مانع من الموانع المسؤولية بقوله: ” لا جناية ولا جنحة إذا كان المتهم في حالة جنون أثناء إرتكاب الفعل”.
فإن المشرع الجزائري إعتبر حالة الجنون مانعا من موانع العقاب وليس مانعا من موانع المسؤولية الجزائية فالمجنون مسؤول عن أفعاله لكن لا يمكن معاقبته لكون العقوبة لا تجدي ولا تفيد بشيء وبالتالي فإن القاضي يحكم بإدانة المجنون المرتكب للجريمة ويمتنع عليه النطق بالعقوبة بل يعفيه منها طبقا للمادة 47 من قانون العقوبات الجزائري.
كما يمكن لنا تبرير أهمية الفحص الطبي على المتهم قبل وضعه في الحجز القضائي وذلك لنسبة الحقائق العملية التي يتميز بها طب الأمراض العقلية.
يذكر الفرنسي”هنري باروك” في كتابة”رجال مثلنا” وهو واحد من أبرز الأطباء الفرنسيين قصة تشخيص مرض لدى الشباب إلتقى به من الأطباء في البرتغال أثناء إنعقاد مؤتمر الأمراض العقلية يقول: ” باروك بشأن هذه الحالة أن 18 طبيبا الذين كلفوا بتشخيص الحالة المرضية التي عرضت عليهم، نصفهم قال بوجود عرائض مرضية وبعضهم الآخر أقر بسلامة تامة للقوى العقلية للشاب المفحوص فقد نصادف أيضا حالات مثيلة لهذه الحالة في واقعنا عندما يكلف القاضي خبراء في طب الأمراض العقلية بالقيام بخبرات وتقع في تضارب حاد بعد إعطاء فكرة ولو وجيزة حول أول مانع المسؤولية وهو الجنون وما يمكن قوله أن معظم وغالبية التشريعات جعلته مانعا من موانع المسؤولية والعقاب .
ورغم أن المشرع الجزائري ولم يتطرق إليها إلا أن ما نلاحظه أن الجنون كحالة مرضية يتعرض لها الشخص وراثيا أو بعد إرتكابه للجريمة أو قبلها يبقى الجنون مانعا للمسؤولية، لأن لا هدف من معاقبة متهم لا يعرف معنى العقاب ولا معنى المسؤولية ولا تخطر بباله فكرة الذنب والخطيئة ويبقى الحجز القضائي إجراء وقائيا تفاديا من إرتكابه لجرائم أخرى يخضع فيه المريض للعناية المركزة وعسى أن يعود إلى حالته الطبيعية كبقية الأشخاص ليفهم معنى المسؤولية والعقاب.
ونستخلص أن الشخص الذي يصاب بمرض من الأمراض العقلية والعصبية ولكنه مع ذلك لا يفقد قدرته على وعيه و إرادته فإنه لا يعد مجنون ولا تسقط مسؤوليته عن أعماله الإجرامية كما أنه لا يجوز إحتجاجه بمرض ولو كان موجودا إذا لم يكن هناك صلة بين هذا المرض والجريمة التي إرتكبها فالمريض بجنون السرقة مثلا ليس له أن يحتج بجنونه إذا إقترف جريمة القتل إذا حتى يصبح إحتجاجه وإعتبار مرضه سببا لإمتناع المسؤولية أن تكون هناك علاقة بين مرضه وبين الجريمة التي إقترفت.
المطلب الثاني: صغر السن (الحدث)
من المسلم به أن الطفل يولد معدوم الوعي والإدراك وبعد مدة من الزمن تبدأ ملكاته الذهنية والنفسية بالنمو شيئا فشيئا حتى ينضج ويكتمل نموه العقلي بعد مضي السنين العديدة.
وتراعي القوانين الوضعية هذه الحقيقة فلا تحاد الأحداث عن خطئهم الجنائي كما تحاسب الكبار البالغين. وتختلف التشريعات في تحديد السن معين يعد المرء بعد بلوغه مسؤولا عن أعماله الإجرامية تبعا للسياسة الجنائية التي تنتهجها في هذا الميدان، فأغلب التشريعات تعتبر أن الطفل الذي لم يبلغ السنة السابعة معدوم التمييز ولا يحاسب على أي فعل يرتكبه فنجد المادة 20 من قانون العقوبات العراقي والمادة 237 من قانون العقوبات اللبناني والمادة 94 من قانون العقوبات الأردني، وبذلك يتضح أن التشريعات ورجال القانون وإن اتفقوا على مبدأ إنعدام الإدراك لدى الصغير إلا أنهم قد إختلفوا في تقدير سن التمييز والإدراك لديه.
الفرع الأول: نشأة قرينة عدم مسؤولية الأحداث و طبيعتها
إن إطار إرتكاب الجريمة من قبل الطفل يتجاوز إطار القانون الجزائي لكون تصرفه يخضع للطبيب، أكثر من خضوعه للقاضي فهو فعل خطير بالنسبة للمجتمع لأن جنوح الأحداث يعد بذرة إجرام الغد ويتطلب ذلك تدخل المجتمع ليس فقط من أجل العقاب بل من أجل العلاج لأن الجريمة تعد رد فعل عن مرض أكثر عمقا ويجب علاجه للوقاية من العود فالجانح يكون مضطربا بسبب صدمات معنوية مؤثرة فهو يتألم. أو بآلام سابقة عن عوارض جسمية أو ذهنية، لكون تطور شخصيته وتكوينها سببها نقص في الحنان أو العناية من قبل الأولياء فالطفل عاش في محيط فاسد، ومن غير العدل نسبة الجريمة إليه بالرغم من إرتكابه لها بإرادته و في حالة وعي أي بصفة مقصودة، فالمهم هو النظر إلى الضرر عن من صدر و من كيفية القضاء عليه بواسطة العلاج.
أما إذا بحنا في الطبيعة قرينة عدم المسؤولية فهي قرينة مطلقة للأطفال الذين تقل أعمارهم عن 13 سنة وبسيطة بالنسبة لأحداث من 13 إلى 18 سنة.
و عليه فهي مطلقة بالنسبة لأحداث أقل من 13 سنة ولا يمكن إثبات العكس مدلولها من قبل أي شخص وبالتالي لا يمكن توقيع عقوبة على حدث حتى وإن كان ميلا إلى الرفق، فالقانون لا يسمح إلا بتوقيع تدابير الحماية أو مراقبة، وهي بسيطة من جهة أخرى في مواجهة الأحداث من 13 إلى 18 سنة إذ يمكن إثبات العكس مدلولها عندما تجعل الظروف والشخصية الحدث ذلك ضرورة في نظر القضاة.
بعد هذا التحليل البسيط نطرح الإشكال الآتي فما موقف القوانين الوضعية من قاصر و هل أخذت هذه التشريعات بقرينة عدم المسؤولية؟ و ماهو سن الرشد الجنائي في كل منهم؟
الفرع الثاني: موقف بعض التشريعات من حالة صغر السن (الحدث)
تأخذ التشريعات الوضعية عامة سواء العربية والغربية بما أخذت به الشريعة الإسلامية من حيث إختلاف المسؤولية الجزائية للأحداث باختلاف مراحل أعمارهم، والرأي الغالب في هذه القوانين هو تقسيم عمر الإنسان إلى أنواع بحسب السن وأنه يمر بثلاثة مراحل مميزة ومغايرة عن بعضها تميزا كافيا، ولو أنه يصعب تحديد كل مرحلة تحديدا دقيقا وذلك حسب نظرية كل مشرع وطني على حدى ففي المرحلة الأولى يكون الصبي صغيرا ويفترض فيه عدم قدرته على فهم ماهية العمل الجنائي وعواقبه و هذا الأمر منطقي وواقعي ومن ثم فلا مسؤولية عليه إطلاقا.
وقد حدد القانون المصري هذه المرحلة بسبع سنوات وكذلك الحال في الهند وإنجلترا وفي إيطاليا. وقد حددت المادة الثانية من المادة المذكور أعلاه هذه الحالات:
- إذا وجد متسول ويعد من أعمال التسول عرض السلع أو خدمات تافهة أو القيام بألعاب بهلوانية أو غير ذلك مما لا يصلح موردا جديا للعيش.
- إذا مارس جمع أعقاب السجائر وغيرها من الفضلات والمهملات.
- إذا قام بأعمال تتصل بالدعارة أو الفسق أو بإفساد الأخلاق أو القمار أو المخدرات أو نحوه بخدمة من يقومون بها.
- إذا لم يكن له محل إقامة مستقر أو كان يبيت عادة في الطرقات أو في أماكن أخرى غير معدة للإقامة.
- إذا خالط المعارضين للإنحراف أو المشتبه فيهم أو الذين إشتهر عنهم سوء المسيرة.
- إذا إعتاد على الهروب من معاهد التعليم أو التدريب.
وما يلاحظ من نص المادة الثانية من هذا القانون أن المشرع خرج عن القواعد العامة التي تحدد الطفل بالعمر و إعتبر الظروف الإجتماعية والاقتصادية التي يعيشها هذا الصغير عامل من العوامل التي ترتب تطبيق التدابير الوقائية فهي من جهة تحمي الطفل من التشرد والتسول وغيرها من الصفات القبيحة ومن جهة أخرى تحد من الظواهر الإجتماعية السلبية داخل المجتمع ومن الجهة القانونية تهدف إلى إصلاح الطفل وتهذيبه وإبعاده من دائرة الخطر التي في غالب الأحيان تؤدي به إلى الإنحراف.
وإرتكاب أبشع الجرائم من أجل تحقيق أهداف لا تتناسب مع القيمة التي إرتكب من أجلها السلوك الإجرامي كما يتضح من النص بالإضافة إلى ما سبق من المشرع المصري وحد في المعاملة بين الأطفال المجرمين والأطفال المنحرفين فقرر لهم نفس التدابير أو أخضعها في الحالتين لنفس الأحكام، وقد قسم القانون عمر الطفل إلى ثلاث مراحل:
- تبدأ الأولى بالميلاد حتى سن السابعة يتجرد فيه الحدث من الإدراك والتمييز وبالتالي يتجرد فيها من أية مسؤولية جزائية، وإذا كان من المستحيل أن توقيع التدابير عليه.
- أما المرحلة الثانية تبدأ من السابعة وتنتهي ببلوغ الخامسة عشر تنزل بالطفل تدابير فقط، أما المرحلة الثالثة فتبدأ بتجاوز الخامسة عشر وتنتهي ببلوغ الثامنة عشر فتوقع فيها العقوبة “بعد إستبعاد الجسيم منها”، كما يجوز أن تنزل به تدابير إذا قدر القاضي أنها أكثر ملائمة في إصلاح الطفل وتقويمه والسبب في هذا التقييم حسب تقديرنا المتواضع أن الحدث في المرحلة الأولى يكون مجرد من التمييز والإدراك إذ يستطيع إيذاء نفسه بنفسه.
- أما عن المرحلة الثالثة فلم يكتمل نموه بعد مما يعني أن أهليته الجزائية بالتكليف لا زالت ناقصة وهذا يصبح من الملائم الإقتصار على التدابير الوقائية العلاجية دون العقوبة التي قد تلحق الضرر بنفس الجاني، إذا كان الحدث في المرحلة الثالثة قد اكتمل نموه إلا أنه لا يزال ناقصا وجسدا، ومن هذا إستبعد المشرع العقوبات بالتدابير الإحترازية.
الفرع الثالث: الإجراءات المتخذة ضد الأحداث
كما يلاحظ أن العبرة من تحديد السن، هي بوقت إرتكاب الفعل الإجرامي تطبيقا للقاعدة العامة من وقت قيام الجريمة وتحديد المسؤولية عنها إنما هو وقت إرتكاب الفعل الإجرامي.
كما أن التقويم الذي يتبع في تقدير سن الحدث هو التقويم الميلادي وقد نصت المادة 95 من قانون الطفل على أنه: “لا يعتد في تقدير سن الحدث بغير وثيقة رسمية، فإذا ثبت عدم وجودها يقدر سنه بواسطة خبير، ” أهم التدابير المقررة للطفل الذي لم يتجاوز خمس عشر سنة هي التوبيخ وعرفته المادة 102 من قانون الطفل بأنه: “توجيه المحكمة اللوم والتأنيب على الطفل عما صدر منه وتحذيره بألا يعود إلى مثل هذا السلوك مرة أخرى”. ومعنى هذا أن التوبيخ لكي يكون مؤثرا يجب أن يكون صادرا من القاضي أثناء جلسة المحاكمة.
أولا- التسليم
وقد عرفته المادة 103 من قانون الطفل بأنه: “تسليم الحدث يكون إلى أحد أبويه أو إلى من له الولاية أو الوصاية عليه، فإذا فلم يتوفر في أيهما الصلاحية للقيام بتربيته سلم إلى من يكون أهلا لذلك من أفراد أسرته…”.
ثانيا – الالتحاق بالتدريب المهني
حددت المادة 104 من قانون الطفل معنى هذا التدبير فقالت: “إن المحكمة تتعهد بالحدث إلى أحد المراكز المخصصة لذلك، أو إلى أحد المصانع أو المتاجر أو المزارع التي تقبل تدريبه ولا تحدد المحكمة مدة لهذا التدريب على ألا يريد بقاء الطفل في جهة يلقنه سلوكا والتزاما. بالعمل إلى جانب القائمين على التدريب مما ينقل إليه الإحساس بالواجب والمسؤولية وهو من جانب آخر يعلمه حرفة أو مهنة تؤهله لاحتراف عمل شريف”.
ثالثا – الالتزامات بواجبات معينة
ينطوي هذا التدريب على مجموعة من الواجبات يختار منها القاضي الواجب المناسب وقد بينتها المادة 105 من قانون الطفل فنصت على: “الإلتزامات بواجبات معينة يكون بخطر إرتياد أنواع من المحال أو بفرض الحضور في أوقات محددة أمام أشخـــاص أو هيئات معينة، أو بالمواظبة على بعض الإجتماعات التوجيهية ويكون الحكم بهذا التدبير لمدة لا تقل على ستة أشهر ولا تزيد عن ثلاث سنوات”، وقد أضاف المشرع المصري بالإضافة إلى التدابير السالفة الذكر تدابير أخرى كإيداع في أحد مؤسسات الرعاية الإجتماعية للأحداث، الإختيار القاضي، الإيداع في المستشفيات المختصة، وقد أعطى القانون القاضي سلطة إطالة مدة التدبير أو إنهائه أو تعديله أو إبداله وذلك طبقا لما إذا كانت حالة الخطورة لا زالت قائمة وأنها إنتهت أو أن مواجهتها تقتضي إبدال تدبير بتدبير.
رابعا – الإشراف القضائي على التنفيذ
يخضع تنفيذ التدابير لإشراف قاضي الأحداث وإليه ترفع التقارير المتعلقة بتنفيذ التدبير فله أن يزور بنفسه أو بواسطة ندب أحد خبيري المحكمة، المؤسسات التي تنفذ فيها التدابير مرة كل ثلاث أشهر على الأقل المادة 134 من قانون الطفل، كما خول القانون المراقب الإجتماعي الإشراف المباشر على تنفيذ تدابير التسليم والإلحاق بالتدريب المهني وألزمه برافع إلى المحكمة تقارير دورية عن الحدث الذي يتولى أمره والإشراف عليه حتى يكون الإشراف على تنفيذ التدابير في النهاية لقاضي الأحداث “المادة 135 من قانون الطفل ” وهذا الإشراف القضائي ضمانه قوي لحسن تنفيذ التدابير وفيه برعاية للحدث وتقدير لهذا تقدمه في برنامج الإصلاح، ولا سيما إذا كان مودعا في مؤسسة إجتماعية وعلاجية ومن ثم فهو الوسيلة الفعالة للبث في إستمرارية التدبير أو النهاية.
خامسا – تعدد الجرائم
نعلم أن قاعدة عاملة في شأن تعدد الجرائم، مفادها أن تعدد العقوبات بتعدد الجرائم أما بخصوص التدابير فإنها لا تتعدد بتعدد الجرائم وإنما يتخير القاضي تدبيرا كي يطبقه في هذه الحالة على الحدث، أخذ في اعتباره العوامل التي أفضت إلى إجرامه والأسلوب الأمثل في إصلاحه وتأهيله وعلى هذا نصت المادة 119 بقولها: “إذا ارتكبت الحدث الذي لا يزيد منه خمس عشر سنة جريمتين أو أكثر وجب الحكم عليه بتدبير واحد مناسب…”.
سادسا – إيقاف التنفيذ
نصت المادة 158 من قانون الأحداث على أنه: « لا يجوز الأمر بوقف تنفيذ التدابير المنصوص عليها”. وحكم هذا النص بديهي والقواعد العامة تعني أنم إنما التدبير وضع كي يوجه الخطورة الإجرامية أو الإنحرافية لدى الحدث فإن تقرر فلا بد أن ينفذ.
الفرع الرابع: موقف المشرع الجزائري من حالة صغر السن (الأحداث)
نصت المادة 49 من قانون العقوبات الجزائري على ما يلي : لا توقع على القاصر الذي لم يكمل الثالثة عشرة إلا تدابير الحماية أو التربية. ومع ذلك فإنه في مواد المخالفات لا يكون محلا إلا للتوبيخ. ويخضع القاصر الذي يبلغ سنه من 13 إلى 18 إما لتدابير الحماية أو التربية أو لعقوبات مختلفة.
أول ما يلاحظ من النص أن المشرع الجزائري بموجب قانون العقوبات ميز بين مراحل المسؤولية بحسب عمر الجاني القاصر، وعليه سندرس كل مرحلة على حدى :
أولا: صبي دون الثالثة عشر
يتضح من نص المادة 49 المشار إليها أعلاه أن الصبي دون الثالثة عشر لا يعد مسؤولا بحكم القانون فلا يجوز إقامة الدليل على أنه أهل للمسؤولية ولو كان من أعقل الناس، عدم بلوغ السن هي قرينة غير قابلة لإثبات العكس وعليه فلا تطبق العقوبة على هذا الصغير فهو غير مسؤول حتى ولو رأى القاضي أن الفاعل رغم حداثة سنه يتميز بإدراك الإختيار.
إن قرينة عدم المسؤولية القاصر هي قرينة مطلقة ولا يمكن إثبات عكس مدلولها ولا يمكن تسليط عقوبة جنائية عليه لكون المشرع يفترض فيه عدم التمييز.
وتحسب مدة 13 سنة للقول بعدم مسؤولية الصغير عقابية على أساس وقت إرتكاب الجريمة وليس وقت إقامة الدعوى ضده أو محاكمته طبقا لنص المادة 443 من قانون الإجراءات الجزائية إذا كان المشرع قد جنب القاصر في هذه المرحلة مغبة توقيع العقوبة عليه حتى أنه لم يجز وضعه في المؤسسة عقابية ولو مؤقتا (المادة 456 من قانون الإجراءات الجزائية) فإن ذلك لم يمنع من إمكانية خضوعه لتدابير الحماية أو التربية التي نصت عليها المادة 444 من قانون الإجراءات الجزائية وهي:
- التسليم للوالدين أو الوصي أو لشخص جدير بالثقة.
- تطبيق نظام الإفراج عنه مع وضعه تحت المراقبة.
- وضعه في منظمة أو مؤسسة عامة أو خاصة معدة للتهذيب أو التكوين المهني مؤهلة لهذا الغرض.
- وضعه في مؤسسة طبية أو شبه طبية مؤهلة لذلك.
- وضعه في مصلحة عمومية مكلفة بالمساعدة.
ونرى أن توقيع مثل هذه التدابير مرهون بوجود خطر محدق بالصغير نفسه يخشى أن يؤدي تركه دون أية مساعدة إلى خطر أن يعود الطفل إلى الإجرام أو أن ينشأ معتاد على الإجرام.
ثانيا: القاصر مابين 13 و 15 سنة من عمره
أما ما يعبر عنه بالحدث الذي بلغ 13 سنة ولم يتجاوز 18 سنة فعند بلوغه لهذا السن يصبح مسؤولا عن أعماله والمسؤولية محققة باعتبار أن المشرع يحدد سن الثامنة عشر لإكتمال نضجه العقلي بموجب المادة 422 من قانون الإجراءات الجزائية فإذا إرتكب القاصر بعد بلوغه الثالث عشر وقبل بلوغه سن الرشد الجنائي جريمة فإن القانون يسمح بإخضاعه لتدابير الحماية أو التربية أو العقوبات، ولهذا راعى المشرع الإدراك والتمييز بأنه لا يكتملان لدى الشخص مرة واحدة وإنما يأتي ذلك على مراحل أي بالنمو التدرجي للقوى الذهنية الأمر الذي حذا بالشارع إلى التدرج في المسؤولية الجنائية للحدث بملكات نفسية وذهنية محدودة خلال هذه المرحلة من العمر، ويعتبر شراح القانون الجنائي أن قرينة عدم مسؤولية الحدث في هذه المرحلة تكون قرينة بسيطة إذا يمكن إثبات عكس مدلولها، فإذا إرتكب الحدث جريمة كان للقاضي سلطة تقديرية إما أن يخضع الحدث لتدابير الحماية أو زينة وإما أن يوقع عليه عقوبة مخففة ( المادة 49 من قانون العقوبات الجزائري) أو أن يستكمل عقوبات القانون العام بتدابير الحماية أو التهذيب (المادة 442) والقاضي يختار بين العقوبة المخففة أو التدابير الحماية والتربية حسب ظروف كل قضية، وذلك بحسب جسامة الفعل الذي إرتكبه الحدث.
فالمحكمة تطبق الحدث البالغ من 13 إلى 18 سنة قرينة عدم المسؤولية بأن تجعله محلا لتدابير الحماية أو التربية، طبقا لما جاء في قرار يوم 16-07-1995 من الغرفة الجنائية الأولى في الطعن رقم 466 و هذا نصه * إن الحدث الذي يبلغ من العمر 13 إلى 18 سنة يخضع إما لتدابير الحماية أو التهذيب المنصوص عليها في المادة 444 من قانون الإجراءات الجزائية و إما لعقوبات مخففة طبقا للمادة 49 الفقرة الأخيرة من قانون العقوبات.
غير أن المادة 445 من قانون الإجراءات الجزائية تجيز لجهة الحكم بصفة إستثنائية في مواد الجنح الجنايات أن تستدل أو تستكمل تدابير الحماية أو التهذيب بعقوبة الغرامة أو الحبس إذا رأته أنذاك ضروري نظرا لظروف الدعوى أو الشخص المجرم، أما الجمع بين تدابير الحماية أو التهذيب و عقوبتي الغرامة و الحبس فالظاهر من نص المادة أنه غير جائز لذلك تقرر نقض قرار غرفة الأحداث القاضي على القاصر بالحبس لمدة أشهر وبغرامة قدرها خمسمائة دينار وبوضعه تحت المراقبة بمصلحة الملاحظة والتربية لمدة 06 أشهر.
إذا كانت العقوبة المفروضة قانونا للجريمة هي الإعدام والسجن المؤبد فإنه يحكم على الحدث بعقوبة الحبس من 10 سنوات إلى 20 سنة.
وإن كانت العقوبة المفروضة قانونا للجريمة هي السجن المؤقت فإنه يحكم عليه بالحبس لمدة تساوي نصف المدة، التي يتعين الحكم على الحدث إما التوبيخ أو بعقوبة الغرامة.
إذن يفهم من ذلك أنه لا يمكن توقيع عقوبة السجن الجنائية أو الإعدام على الحدث المرتكب للجناية أو الجنحة بل تطبق عليه فقط عقوبة الحبس، فكل الجرائم التي يرتكبها الحدث تعتبر جنحا و ليست جنايات و بتعبير آخر لا يجوز توقيع الجناية على الحدث مهما كانت الجريمة التي إرتكبها، وبالتالي كنتيجة حتمية لا يجوز توقيع العقوبات التبعية المنصوص عليها في المادتين 51،50 من قانون العقوبات و هي الحجز و الحرمان من الحقوق المدنية لأنها لا تتعلق إلا بعقوبة الجناية، أما بالنسبة للعقوبات التكميلية فإن معظمها تتنافى مع ظرف صغر السن بحيث يمكن القول بأن معظم تلك العقوبات لا تتناسب ولا تطبق على الحدث فبدلا من عقوبة الإعتقال أو تحديد الإقامة أو المنع من الإقامة يجوز للقاضي بموجب سلطته التقديرية أن يخضع الحدث لتدابير التربية كالإيداع في مؤسسة للتربية كما أنه لا يمكن معاقبته بالإكراه البدني طبقا للقرار الصادر يوم 30/12/1986 من الغرفة الجنائية الأولى في الطعن رقم 726-45 هذا النص ” يكون مخالفا للمادة 600 فقرة 3 من قانون الإجراءات الجزائية ويتعرض للنقض من قرار غرفة الأحداث القاضي بالإكراه البدني على قاصر لم يبلغ 18 سنة يوم إرتكاب الجريمة المسندة إليه.
ونخلص إلى القول بأن نصي المادتين 444 و 445 من قانون الإجراءات الجزائية هما الأصل في تطبيق تدابير الحماية أو التهذيب. ونرى بأن المشرع الجزائري بموجب المواد السالفة الذكر راعى نفسية وذهنية الحدث مع عدم إحتمال ملكاته وقدراته العقلية، كما أن جنوح الأحداث بعد بذرة إجرام الغد يتطلب تدخل المجتمع ليس من أجل العقاب وردع الحدث بل من أجل العلاج في مؤسسات طبية مختصة تعيده إلى الحياة الإجتماعية وخاصة الظروف النفسية والاقتصادية لها دور إيجابي وفعال كما لها دور سلبي في جنون الأحداث وتمردهم على الواقع، كما أن المشرع الجزائري قد خصص للجانحين المجرمين محكمة خاصة تسمى محكمة الأحداث برئاسة قاضي الأحداث قسم الأحداث لتتم محاكمة الحدث بخلاف البالغ الذي يحاكم في محكمة الجنايات.
ثالثا: مرحلة البلوغ
لقد وضع المشرع الجزائري سن الرشد الجنائي وحدد ب 18 سنة كاملة أي هو سن بلوغ الشخص وإكتماله العقلية و إدراكه وتمييزه الجيد بين الخير والشر لذلك فأي إرتكاب لفعل قانونا يعاقب عليه ويصبح مسؤولا مسؤولية جنائية كاملة.
المبحث الثاني: موانع المسؤولية الجنائية بسبب إنعدام الإرادة
المطلب الأول: الإكراه كمانع لقيام المسؤلية الجنائية
من موانع المسؤولية الجزائية مانع الإكراه، فقد نصت المادة 48 من قانون العقوبات على مايلي: ” العقوبة على من إضطرته إلى إرتكاب الجريمة قوة لا قبل له بدفعها “.
خلافا للجنون الذي يفقد التمييز و يفقد الوعي، فإن الإكراه بسبب نفسي ينفي حرية الإختيار و يسلب الإرادة حريتها كاملة و لكن كلاهما يحدث نفس النتائج فكلاهما لا يعدم الجريمة في جد ذاتها وإنما بعد المسؤولية الشخصية للجاني.” ويراد بالإكراه قوى إنسانية تتجه إلى نفسية الإنسان دون أن تقبض علة جسمه فتحمل هذه النفسية كرها على إرادة الجريمة”
والإكراه على نوعين إكراه مادي وإكراه معنوي:
الفرع الأول: الإكراه المادي
وهو أن تقع قوة مادية على الإنسان لا يقدر على مقاومتها فيأتي بفعل يمنعه القانون، كأن يتعرض المرء لقوى مادية وخارجية تعدم إرادته وتحمله على القيام بالواقعة الإجرامية، ولذا فإننا لا يمكن أن ننسب الجريمة إليه و صور ذلك أن يمسك شخص بيد آخر وتحريكها لكتابة بيانات مزورة في محرر رسمي أو لتزوير إمضائه بوضع بصمة إبهامه على وثيقة ما، في مثل هاتين الحالتين هناك قوة مادية أعدمت إرادة الشخص المكره وحولت جسده إلى مجرد آلة يستعملهما من أكره كما يريد فالمكره ينفذ الجريمة بجسمه وليس بعقله.
وبذلك فالإكراه المادي هو وقع من الضغط المادي يسلب إرادة المكره بصفة لإكراهه على القيام بعمل إيجابي أو سلبي. كما يرى البعض أن الإكراه المادي “هو شل إرادة الجاني بقوة مادية لا قبل له بمقاومتها” فالإكراه المادي يمحو إرادة الفاعل التي هي أساس المسؤولية الجزائية يحوله إلى مجرد أداة تنفذ حركات عضوية متجردة من الصفة الإرادية.
أولا: صور الإكراه المادي
الإكراه المادي مارس على جسم الفاعل و يتمثل في قوة لا يستطيع مقاومتها، أتفقده السيطرة على أعضاء جسمه وتسخرها على معين في إرتكاب ماديات إجرامية. وكل قوة الشخص السيطرة على أعضاء جسمه وتعطل إرادة الفعل لديه تحقق الإكراه المادي سواء كان مصدرها خارجي أم مادي.
1. الإكراه المادي ذو المصدر الخارجي
قد يكون مصدر الإكراه قوة طبيعية مثل الفيضان أو السيل الذي يقطع سيل المواصلات فيمنع الشاهد من الذهاب إلى المحكمة لأداء شهادة دعي إليها قانونا، أو العاصفة التي تقذف بإنسان على آخر فيقتله أو يصيبه بجروح.
كما قد تكون قوة عنيفة مصدرها الطبيعة كمن تضطره العاصفة الرسو في ميناء بدون رخصة أو لهبوط على مطار بدون رخصة. كما قد يكون مصدر الإكراه قوة ناشئة عن فعل حيوان كأن يلجأ راعي بقطيعه إلى غاية مجاورة محمية هربا من الذئاب، أو الفرس الذي يجمع يراكبه بحيث لا يقوى على كبح جماحه فيصيب إنسانا بجراح أثناء جريه.
وقد يكون مصدر الإكراه قوة ناشئة عن فعل إنسان كمن يسلك بيد آخر ليوقع به على عقد مزور أو من يهدد بسلاح ناري أمين صندوق البنك ويرغمه على تسليم المال المودع به، أو ذلك الذي يحبس الشاهد لمنعه من الذهاب إلى المحكمة لأداء الشهادة ومن يمسك بيد الغير ويحركها لتوقيع محرر مزور أو لإثبات بيانات مزورة في المحرر، أو من يمسك بيد شخص ويضرب بها ثالث أو من يلقي بإنسان على آخر فيقتله أو يصيبه بجراح.
وقد يكون مصدر الإكراه من فعل السلطات العامة “وذلك حكم في فرنسا ببراءة المتهم من جريمة عدم الذهاب إلى الخدمة العسكرية بناء على طلب السلطات المختصة لأنه كان محبوسا على ذمة قضية أخرى”.
وعندما يكون مصدر الإكراه قوة إنسانية ويكون المكره مجرد أداة في يده، يجب البحث في مسؤولية من إستعمل المكره كأداة حيث تنفي مسؤولية هذا الأخير لعدم إمكان نفسية ماديات الجريمة إلى إرادته وهذا وفقا لنص المادة 48 من قانون العقوبات الجزائري.
2. الإكراه المادي ذو المصدر الداخلي
ينتج الإكراه أثر ولو كانت القوة التي أثرت على إرادة الفاعل مصدرها داخلي متصل به متى كان من المستحيل مقاومتها، ويتعلق الأمر هنا بقوة تنشأ عن سبب ذاتي ملازم لشخص الجاني نفسه “وقد أخذ القضاء الفرنسي بالإكراه المادي ذي المصدر الداخلي في قضية راكب قطار غلبه النعاس في سفر طويل من كثرة التعب فجاوز المسافة التي دفع أجرها “.
غير أنه رفض في مناسبات أخرى الأخذ بهذا الإكراه كما حدث في قضية السيدة التي كتبت رسائل تتضمن الشتم إلى الوزير ووكيل الجمهورية وقاضي التحقيق، وهي تحت تأثير إنفعال تسبب فيه تعريض زوجها إلى الإحالة على التقاعد.
وهناك أمثلة أخرى كأن يصاب قائد السيارة بإغماء مفاجئ غير متوقع لا توجد أسباب ظاهرة تدل عليه فيصدم إنسانا ويقتله أو يصيبه بجراح.
“وقد إستقر القضاء الفرنسي على أن المرض يعد من قبيل القوة القاهرة التي تمحوا إرادة الفاعل وتمنع مسؤوليته الجزائية إذا بلغ من الجسامة حدا يمنع المريض من الوفاء بالإلتزامات التي يفرضها عليه القانون، وتطبيقا لذلك قضي ببراءة المتهم في جريمة هجر العائلة بسبب إصابته بمرض في القلب منعه من ممارسة عمله والحصول على الدخل الذي ينفق منه على أسرته.
ثانيا: شروط الإكراه المادي
وسواء كان الإكراه المادي داخليا أم خراجيا يشترط فيه – الإكراه المادي- شروط حتى يمنع المسؤولية الجزائية وهي أن يكون غير ممكن توقعه وغير ممكن دفعه.
1. شرط عدم إستطاعة التوقع
يشترط في القوة التي أكرهت المتهم على الفعل غير متوقعة وليس بإستطاعته توقعها فإذا كان بإستطاعته توقعها فلا يجوز له أن يدفع بالإكراه المادي لنفي مسؤولية عن الجريمة، إذا كان من الواجب عليه أن يتفادى الخضوع للقوة التي أكرهته على الفعل.
كما أن عدم إمكان التوقع عند بعض الفقه هي أن تكون القوى الواقعة على الجان فجائية ومثال ذلك أمين صندوق البنك الذي يفاجئه الجناة وهو في مكتبه، ويهددونه بسلاح ناري لإرغامه على تسليم المال المودع بها.
أما إذا كان الإكراه متوقعا لا تنتفي مسؤولية الجاني ويرجع للقضاء تقدير ما إذا كانت القوة التي وقعت على الجاني يمكن توقعها ودفعها ودفعا أم لا وعموما يتشدد القضاء في تقدير هذا الشرط والأخذ به “.
2. إستحالة الدفع
يشترط أن تكون القوة التي أكرهت المتهم على الفعل مستحيلة الدفع أي أن تؤدي إلى إرادته كلية، بحيث يكون من المستحيل عليه بصفة أن يتجنب الجريمة. وقد عبرت محكمة النقض الفرنسية عن هذا الشرط بطلبها أن يكون المتهم في “حالة إستحالة مطلقة تمنعه من إحترام القانون.
ويعني ذلك أن المتهم يسأل عن الجريمة لإنتفاء الإكراه المادي، إذا كان من شأن القوة القاهرة أن تجعل تجنب مخالفة القانون أمرا فيه مشقة عليه دون أن يكون مستحيلا. هذا وبالإضافة إلى شرط عدم إمكانية توقع القوة وعدم إمكانية دفعها يشترط القضاء الفرنسي أن لا يكون الجاني قد إرتكب خطأ بعد الإكراه، أو بمعنى آخر أن لا يكون مسبوقا بخطأ الجاني.
“وهكذا قضت محكمة النقض الفرنسية بقيام جنحة الهروب من الجيش في حق بحار منع من الإلتحاق بباخرته قبل إنطلاقها بسبب توقيفه من قبل الشرطة من أجل السكر العمومي والعلني، ويترتب على ذلك تسليط العقاب من أجل جريمة عمدية على من هو مذنب بمجرد عدم إحتياطه أو مذنب في أسوأ حال بقصد محتمل “
ومتى توافرت شروط الإكراه المادي على النحو السابق بيانه إمتنعت مساءلة المكره جنائيا عن الفعل المرتكب. ويفيد نص المادة 165 القانون المدني المصري على أن المكره ماديا لا يسأل مدنيا عن فعله لاقتناء إرادة الفعل والضرر الذي نشأ عنه وهذا بقولها: “إذا أثبت الشخص أن الضرر قد نشأ عن سبب أجنبي يد له فيه كحادث مفاجئ أو قوة قاهرة أو خطأ من المضرور أو من الغير كان غير ملزم تعويض هذا الضرر ما لم يوجد نص أو إتفاق على غير ذلك”.
والواقع أن الإكراه المادي لا ينفي الركن المعنوي في الجريمة فحسب، وإنما ينفي أيضا السلوك الإجرامي اللازم لقيام الركن المادي في الجريمة، وذلك أن السلوك الإجرامي لا يقوم إلا إذا ثبت عن الجهاز الإداري للإنسان. وفي الإكراه المادي لا يمكن أن ينسب الفعل إلى الجهاز العصبي الإداري للشخص الخاضع للإكراه فالفاعل هو من يسلك بيد آخر بقوة ويحركها لبيان كتابات مزورة أو لإصابة شخص ثالث وليس من خضع للإكراه مجرد آلة إستعملها في إرتكاب الجريمة.
الفرع الثاني: الإكراه المعنوي
ويراد بالإكراه المعنوي عند أحد الفقهاء ” قوة إنسانية تتجه إلى نفسية الإنسان دون أن تقبض على جسمه، فتحمل هذه النفسية كرها على إرادة الجريمة “. في حين يرى البعض الآخر أن الإكراه المعنوي هو ” الضغط على إرادة شخص لحمله على إرتكاب الجريمة ويتمثل الضغط في الإنذار بشر إن لم يرتكب المكره الجريمة المطلوبة.
كما يرى بعض الفقهاء أن ” الإكراه المعنوي ينتج عن ضغط يمارسه على إرادة الفاعل بسبب خارجي (فعل شخص) أو سبب ذاتي (كالعاطفة و الهوى)”.
فالإكراه المعنوي يتفق مع الإكراه المادي في أن مصدر كل منهما قوة إنسانية أي فعل إنسان وإنما يختلفان من ناحيتين:
من ناحية أن الإكراه المادي ينصب على جسم المكره بينما الإكراه بينما الإكراه المعنوي يتجه إلى نفسيته. ومن ناحية أخرى أن الإكراه المادي لا يسمح بنشوء أية إرادة لدى المكره بينما يحمل الإكراه المعنوي الشخص الخاضع له على أن يريد الجريمة، فتنشأ لدى ذلك الشخص هذه الإرادة و إنما بدون أن تكون ثمرة لحرية الإختيار.
فالمكره معنويا أراد الجريمة مقهورا ولكنه على كل حال أرادها، وأما المكره ماديا فلم يترك له أصلا فرصة إستخدام ملكة الإرادة وسخر جسمه مثلما تسخره أية أداة من الجماد ويتمثل الإكراه المعنوي عملا في التهديد بإنزال ضرر جسم بنفس المهدد أو بماله إذا لم يرتكب الجريمة فيرتكبها المهدد إذا يرى أن ضررها عليه أهون على كل حال وقوع الضرر المهدد به.
فمن قبيل هذا الإكراه أن يهاجم قطاع الطرق عربة نقل محملة بالبضائع ويهددون سائقها بالقتل إن لم يسلم محتوياتها فيقدمها لمهم تفاديا للموت.
ومثاله أيضا أن يهدد شخص إنسانا آخر بإطلاق النار عليه إن لم يلق هو النار على الثالث يقف بجواره، أو أن يهدد بإيذاء شديد أو فضيحة جسمية إن لم يرتكب الجريمة أو أن يستعمل العنف بشكل لا يبلغ حد السيطرة على أعضاء المكره وتحريها لإرتكابها الجريمة، كأن يحبسه ويعذبه ويهدد بإستمرار ذلك.
ويعني في الإكراه المعنوي الذي يعدم الأهلية الجنائية أن يكون في شأنه نفي الإرادة كليا لدى الشخص الخاضع للإكراه بحيث لا يكون لديه حرية في الإختيار بين إرتكاب السلوك الإجرامي أو تحمل الضرر المهدد به.
أولا: صور الإكراه المعنوي
الإكراه المعنوي شأنه شأن الإكراه المادي نظرا لأنه ينصب على الشخص بتهديده لإرتكاب فعل هو محضور في نظر القانون والإكراه المعنوي على صورتين:
- الإكراه المعنوي الخارجي.
- الإكراه المعنوي الداخلي.
1. الإكراه المعنوي الخارجي
ويتمثل أساسا في التهديد والإستفزاز الصادر عن الغير. وفي كلتا الحالتين لا يؤخذ بالإكراه المعنوي إلا إذا بلغ تأثيره الحد الذي يرغم الشخص المتوسط على السلوك سبيل الجريمة، أي أنه بعدم القدر اللازم من حرية الإختيار.
ويستلزم بالنسبة للتهديدات الصادرة عن الغير أن تكون غير مشروعة، وهكذا قضي في فرنسا بأن هيبة الإبن من الأب وهيبة الزوجة من الزوج وهيبة الخادم من المستخدم لا تبعد ولا تنفي المسؤولية. أما بالنسبة للإستفزاز الصادر عن الغير فلا يقبل إكراها معنويا إلا إذا إستعمل المفز مناورات يفقد معها المستفز إرادته كاملة، هذا ما قضي به في فرنسا في عدة مناسبات تتعلق بجرائم يرتكبها أصحابها إثر استفزاز مصالح الشرطة المكلفة بمعاينتها.
2. الإكراه المعنوي الداخلي
يتعلق الأمر هنا بتأثير العواطف والهوى نادر ما يؤخذ بهذا النوع من الإكراه كسبب لإنتفاء المسؤولية فكثيرا ما يتشدد القضاء عندما يتعلق الأمر بالإكراه المنوي الذاتي، فلا يأخذ به إلا إذا قضي نهائيا على إرادة الفاعل. وفي هذه الحالة لا يعد الأمر مجرد إكراه معنوي بل نكون بصدد الإكراه المادي.
وفي الممارسة القضائية كثيرا ما يستفيد الجناة الذين يقدمون علل الجريمة تحت تأثير عاطفة قوية، من عقوبة خفيفة دون أن يصل الأمر إلى الكم بإنتقاء مسؤوليتهم.
ثانيا: شروط الإكراه المعنوي
شروط الإكراه المعنوي تتمثل فيما يلي:
الشرط الأول: وجود الخطر
وهو أن يتمثل الإكراه في خطر حال بإعتداء جسيم على النفس الصادر من شخص لحمل آخر على إرتكاب جريمة. ويشترط في الخطر الذي يهدد المكره ويدفعه إلى إرتكاب الجريمة الشروط التالية :
أ)- أن يكون الخطر مهددا للنفس: ويعني ذلك إستبعاد الخطر الذي يهدد المال فإذا كان الخطر مهددا للمال فقط، فلا تمتنع المسؤولية الجزائية عن الجريمة المرتكبة لدفع الخطر. لذلك لا يعفى من المسؤولية من يضحي بحياة الغير أو بأمواله في سبيل حماية ماله أو مال غيره من الهلاك.
ب)- أن يكون الخطر جسيما: فقد أقر بعض الفقهاء بتطلب جسامة الخطر لإمكان إمتناع المسؤولية عن الجريمة المرتكبة لدفعه، فالخطر الجسيم هو الذي يؤثر في الإدارة وينقص من حرية الإختيار على النحو اللازم لتحقيق معنى الإكراه المعنوي. وهنا تكمن التفرقة بين حالة الإكراه المعنوي وفي حالة الدفاع الشرعي في أن حالة الإكراه المعنوي يقع على إنسان بريء لا ذنب له في حلول الخطر بمرتكب الجريمة، أما حالة الدفاع الشرعي فيوجه فعل الدفاع معتد كان سلوكه سببا في حلول الخطر بالمدافع.
ج)- أن يكون الخطر حالا: هذا الشرط متطلب في الخطر الذي يبيح الدفاع الشرعي كما أنه شرط بديهي، لأنه يحقق معنى الإكراه المعنوي الذي يجيز إلى إرتكاب جريمة لدفع خطر يوشيك أن يتحول إلى ضرر فعلي. أما إذا كان الضرر المراد الوقاية منه غير حال فلا يتصور حالة إكراه معنوي تفرض إرتكاب جريمة للوقاية منه، حتى تكون هناك إمتناع للمسؤولية الجزائية للمكره فلا بد أن يكون في خطر حال.
الشرط الثاني: وهو ألا يكون أمام المكره إلا ارتكاب الجريمة
وهو ألا يكون أمام المكره إلا إرتكاب الجريمة التي حددها له شخص الذي يمارس الإكراه في أن يتخلص من الخطر الذي أعدم حرية الاختيار لديه، ولما كانت الجريمة تحت تأثير الإكراه المعنوي يتوافر لها ركنها المادي والمعنوي معا ولو أن ركنها المعنوي قد شابه إنتقاص جسيم في حرية الاختيار، فإنها لهذا السبب تحتفظ بوصف الجريمة رغم كونها ثمرة الإكراه و لا يرفع عنها سوى العقاب لما قدره القانون من أن الإكراه عذر ببعض من عقوبتها، ويجوز دورها بالقوة قبل أن تقع.
المطلب الثاني: حالة الضرورة ورضي المجني عليه كمانع لقيام المسؤولية الجنائية
حالة الضرورة هي ذلك الخطر الذي يتهدد شخص أو يتهدد غيره، فيضطر من أجل الخلاص من هذا الخطر إلى إرتكاب جريمة تصيب شخصا آخر. و الغالب في حالة الضرورة أن يكون الخطر ليس ثمرة عمل إنسان و إنما وليد قوى طبيعية، كما أن إرادة الشخص هنا لا تمحى بل تتجرد من حرية الاختيار. كأن يتعلق شخصان أثناء غرق سفينة بقطعة خشب طافية ثم تبين أنها لا تقوى على حملهما معا، فيبعد أحدهما الآخر فينجو لنفسه ويهلك زميله.
الفرع الأول: حالة الضرورة
هي حالة لا يكون فيها مرتكب الجريمة مكرها على إرتكابها وإنما يكون أمام خيارين:
- إما أن يتحمل أذى معتبرا أصابه في شخصه أو في ماله أو أصاب غيره في شخصه.
- إما يرتكب الجريمة.
مثال: الشخص الذي يختلس خبزا حتى لا يموت جوعا.
بالنسبة للمشرع الجزائري لم يأخذ بحالة الضرورة كسبب عام للإباحة أو إنتفاء المسؤولية ومع ذلك فقد نصت المادة 308 من قانون العقوبات على إباحة إجهاض المرأة الحامل إذا كان ضروريا لإنقاذ حياة الأم من الخطر.
أ. شروط حالة الضرورة
- الشروط المتعلقة بالخطر: مثلما هو الحال في الدفاع المشروع أي أن يجد الشخص نفسه أمام خطر حال أو على وشك الوقوع يهدد شخص غيره وجسامة الخطر تقدرها محكمة الموضوع.
- الشروط المتعلقة بالعمل المرتكب: يجب أن يكون العمل المرتكب في مواجهة الخطر الحال ضروريا للحفاظ على سلامة الشخص أو المال.
- أن يكون الخطر جسيما: بأن يكون غير قابل للإصلاح.
- أن يكون الخطر حالا: أي أن تكون هناك ضرورة فعلية لوجود خطر حال فالخطر المستقبل لا يعتد به.
- أن لا يكون لإرادة الفاعل دخل في حدوث الخطر: إذ يقترض القانون للاحتجاج بحالة الضرورة أن يكون المتهم قد فوجئ بحلول الخطر، لأن عنصر المفاجئة هو الذي يجعل المضطر يقوم بفعله دون تدبر و تروي.
- لا بد أن يكون رد فعل المضطر هو الوسيلة الوحيدة للتخلص من الخطر .
ب- آثار حالة الضرورة
تتفق الأنظمة القانونية التي أخذت بحالة الضرورة على:
- عدم العقاب على العمل المرتكب.
- عدم مساءلة مرتكبه مدنيا.
ملاحضة:
إن حالة الضرورة كإحدى حالات إمتناع المسئولية الجنائية، والتي تأخذ بها غالبية التشريعات الجنائية، وتجد لها صدى قضائي في العديد من الأحكام القضائية، إنما تشكل أمرا واقعيا، يتعرض لها الإنسان بصورة طبيعية، حينما يجد نفسه تحت إكراه معنوي يجبره على الخروج عما يفرضه القانون سواء بصورة القيام بفعل غير مشروع قانونيًا، أو بصورة الإمتناع عما يفرضه القانون، وإنطلاقًا من هذه الأهمية نعتقد أن الأساس القانوني لهذه الحالة إنما يوجد في إنتفاء حرية الإختيار التي تشكل أساس المسئولية الجنائية، وصيرورة إرتكاب الجريمة في هذه الحالة أمرًا حتميًا تمليه ظروف واقعية لا قدر للطبيعة البشرية لمرتكب جريمة الضرورة درئها أو التخلص منها.
الفرع الثاني: رضا المجني عليه
الأصل أن رضا المجني عليه لا أثر له على المسؤولية الجزائية، كون أن القانون الجزائي من النظام العام ومن ثم فلا يجوز للمجني عليه أن يعطل تطبيقه بإرادته.
مثال: لا أثر لرضا المجني عليه على تجريم فعل الطبيب الذي ينهي ألم مريض ميؤوس شفاؤه.
وفي هذا السياق جرم المشرع الجزائري مساعدة الغير على الإنتحار المادة 273 من قانون العقوبات وبعض التشريعات المقارنة أخذت برضا المجني عليه كسب من أسباب الإباحة، خاصة في حالة مساعدة مريض ميؤوس شفاؤه، على الموت إذا طلب منه ذلك. مثال: في مسألة القتل بدافع الرحمة(EUTHANASIE القتل الرحيم).
خاتمة
في خاتمة هذا البحث نستنتج أن تقوم المسؤولية الجنائية في قانون العقوبات الجزائري على أساس حرية الاختيار، ومناطها التمييز والإختيار فإذا توفر الأمران لدى الشخص كان مسؤولا جزائيا، وتعين عقابه عما صدر عنه من جرائم، وإن تخلف أحدهما أو كلاهما كان غير مسؤول جنائيا، وامتنع عقابه، وإن كان أقر بتوقيع بعض التدابير الإحترازية في بعض الحالات كحالة الجنون مثلا إن أساس المسؤولية الجزائية هو العلم والإرادة، والتمييز والإدراك وقت إرتكاب الفعل المحرم قانونا، وعليه لا مسؤولية جزائية على أي شخص دون أن يكون متمتعا بالتمييز، والإدراك وقت إرتكاب الفعل الجرمي.