ثورة ليبيا ضد القذافي … ثمة علاقة وثيقة بين ما آلت اليه الثورة في ليبيا من حرب أهلية وتدخل خارجي، وبين طبيعة النظام الليبي الذي عمد طيلة زيادة عن أربعة عقود إلى إزاحة الفواصل بين النظام السياسي والدولة وزعيمها, الشأن الذي خلق معادلة سياسية طرحها سيف الإسلام القذافي، عند أول تعليق تلفزيوني له على الانتفاضة التي اشتعلت في بنغازي في فبراير 2011 بالقول للمحتجين: إما الاستحسان بالقذافي أو اختفاء الدولة عبر الموقعة والتقسيم.
ولم يختلف القذافي عن ابنه في خطاباته المتوالية أثناء الأزمة التي كان مؤكد معظمها يغلب عليه “النرجسية المهلكة والقاتلة”، حيث حاول لبعث برقية مفادها كذلك أنه والدولة الليبية وجهان لعملة واحدة, وأن أية إطاحة به تعني أن الكيان الليبي بات مهددا.
ثورة ليبيا ضد القذافي
هذه المعادلة السياسية ذات الطابع “الانتحاري” التي تخير شعبا ما بين الخضوع لسلطة مستبدة أو أن يواجه الموقعة والتجزئة, دفعت إلى ” عسكرة ” الثورة في ليبيا، وجرت ورائها تدخلا عالميا لقوات الناتو وأميركا، عبر القرار الأممي 1973 بحجة “حماية المواطنين”، وإذا كان الشأن لا يخلو من مقاصد تخطيط في ليبيا تتجاوز ما هو معلن, لاسيما إذا تمت مقارنة ذاك بالمواقف العالمية “المائعة” إزاء قمع ثورات أخرى في سورية أو البحرين.
لقد رفض القذافي أن يدخل في مفاوضات بشأن الإصلاح السياسي في بلاده، خوفا من حلقة مفرغة من التنازلات السياسية تسيره إلى إسكربت تنحي مبارك أو بن علي، وعلى ذلك قرر اللجوء إلى الخيار العسكري لمواجهة الثورة، بل الأسباب الدولية لم تمكنه من سحقها، مثلما لم تتمكن هي ايضاً من إسقاطه، إذ أبقت على توازن عسكري بينه وبين قوات الثوار، بما قد يفتح الباب لسيناريوهات “الانشطار المناطقي” إذا لم تحسم الاشتباكات العسكرية على الأرض.
إلى أن اللافت في الحالة الحرجة الليبية الذي يستدعي تأملا وسبرا للأغوار والعبر هو القذافي ذاته, حيث أن هنالك استفهامات تفتش عن إجابة – في ذلك الفحص- , وهي كيف أدار القذافي بلاده بأسلوب فجرت الثورة فوقه, ولماذا لم يسقط نظامه، برغم التدخل العالمي الذي اعتبر نظامه فاقدا للشرعية؟, وما هي الخيارات المطروحة أمامه؟.
الإجابة على تلك الإستفهامات تتطلب إيلاء لزوم لمدخل القيادة السياسية في التحليل السياسي للأزمة الليبية، عبر تحديد دومين مساهمة السمات السياسية والشخصية للقذافي في التشييد الليبي “المتداعي”، ولو كان هذا لا يغفل عوامل أخرى في البيئتين الداخلية والخارجية.
أولا: شخصية القذافي وطبيعة الجمهورية الليبية
لا غرو من القول إن هنالك علاقة غير على الفور بين طبيعة شخصية القذافي, والمواصفات الجيواستراتيجية للدولة الليبية، فالزعيم الليبي ظل أثناء 42 عاما من حكمه ينظر لنفسه على أنه “مسيح مخلص أو منقذ” يستدمج في فكره شخصية الزعيم الإسلامي صلاح الدين الأيوبي، إلا أن لم تبلغ قدراته إلى شخصية روبين هود، كما يوميء الباحث الأمريكي وليم زارتمان المحقِّق الأمريكي في إحدى دراساته عن السياسة الخارجية الليبية.
متشكلة القذافي هي الفجوة بين أحلامه في الزعامة الكاريزمية فقط مثل الرئيس الراكب حُسن عبد الناصر, وقدراته الشخصية كقائد سياسي يرغب بتجاوز الواقع وأحيانا عدم فهمه، وهي ذات المعضلة في الجيواستراتيجية للبلد الليبية، حيث أنها تتكبد خللا هيكليا بين مكان جغرافية مترامية الأطراف، وموارد نفطية هائلة, في نظير ضعف سكاني وعدم كفاءة الجيش, وتلك المعضلة تعني صعوبة تكريس دولة ذات بأس تنفذ وظائفها على نحو فعال الدول القومية العصرية.
إن شخصية القذافي صاغت توجهات الجمهورية والنظام الليبي، فأحلامه في أن يكون قائد للعرب أو ملك ملوك أفريقيا جعلته يرفض أن ينازعه أحدا الشهرة، فهو لا يتردد في معاداة أي رئيس أو جمهورية, إذا استشعر أنه يسحب منه البساط, ولعل هذا دفعه أكثر من مرة لإبداء عدم إعجابه بالإمام الخوميني، عندما انطلقت الثورة الإيرانية في السنة 1979.
إحساسه الزائد بنفسه ونظرته لذاته على أنها محور الأحداث في الكوكب دفعت القذافي من حين لآخر حتّى يعلم ذاته على أساس أنه الشخصية قوى المعارضة للعالم أجمع, مثلما ينزع للعب أدوار المسابقة الرياضية والاستشهاد، وهو الذي يجعل من السهل لدى الدوائر السياسية الغربية معرفة أن أفعاله إزاء الوقائع لن تكون متكررة أو معتادة.
وترجع بعض الأبحاث الغربية وخاصة جوي أرنولد في كتابه حول ليبيا ” the Maverick state ” صفات القذافي الشخصية إلى المناخ البدوية التي نشأ فيها, حيث كان ولدا على ثلاث إناث قاسى من عقدة الوحدة وغياب الهيمنة، إضافة إلى اكتسابه قيم الانتباه والترقب البدوية, ومحاولة التفرد عن الآخرين، ومن ناحية آخر تأثر بخطب الزعيم المصري الواحد من أفراد الرحلة جمال عبد الناصر الذي بات بالنسبة له النموزج والموجه, فضلا على ميوله الصوفية جراء انتشار الحركة السنوسية فى الفضاء الليبي منذ القرن الـ9 عشر.
إن كلي صفات القذافي الشخصية لعبت دورا ملتوي – بالقرب من عوامل أخرى تتعلق بطبيعة البلد الليبية – في مشاهدته لدوره سواء ضِمن بلاده أو في محيطه العربي والأفريقي منذ وصوله إلى السطة في عام 1969.
لقد صاغ القذافي بداية من عام 1977 – في أعقاب ثماني أعوام من انقلابه العسكري – لدولته نظاماً “جماهيريا” تغلب عليه الطوباوية السياسية عبر الكتاب الأخضر الذي بشر فيه بالنظرية الدولية الثالثة, والتي ترتكز على فكرة أساسية تعد خليطا ما بين الأفلاطونية المثالية و وجهات نظر جان جاك روسو، وهي رفض النيابية، فالجماهير ينبغي أن تمارس السلطة والثروة والسلاح.
من هنا, ابتدع القذافي نسق الندوات الشعبية كتعبير مواز عن السلطة القانونية, إلا أن بأيدي الجماهير، واللجان الشعبية (السلطة التنفيذية) واللجان الثورية التي تمارس الإشراف وتأمين الثورة أمنيا, ولا عصري في هذا النسق الجماهيري عن أحزاب أو انتخابات أو قانون, فهي لا تعني سوي هيمنة القلائل وفقا للقذافي الذي هو زعيم الثورة لأنه لا يبقى رئيس في ليبيا.
وظل القذافي يزهو بفرادة نظامه السياسي بغض البصر عن مدى تحقيقه لمقاصد حقيقية كمشاركة الحشود أو حرية التعبير, وفي ناحية آخر، جعل هذا النسق الجماهيري القذافي أشبه بـ”مرشد ثورة” لا يخضع للمحاسبة، رغم أن بيده مقاليد الأشياء سياسة وأمنا واقتصاد, وفي هذا الأخير كان يرعي الحفاظ على تكليف أمانة النفط بنفسه بمثابته المورد المالي الذي يكفل له تقصي أحلامه، وعلى ذلك مورست سياسة الترحيل ضد كل يرفض “نظرية القذافي”.
إلا أن الإطار الجماهيري – الذي أسقط فكرة محاسبة القذافي على سياساته – ازداد من تضاؤل البلد ذاتها التي لم تأخذ أصلا حظا من التكريس في الحقيقة منذ استقلالها في السنة 1951، إذ أن وظائف البلد نفسها مورست بكيفية تركز أرباح الإنماء على المقر في طرابلس وسرت، بينما أهملت بنغازي في الشرق وفزان في الجنوب، وهو الذي خلف احتقانا بين القبائل النجمة لهذه المناطق، لذا فليس غريبا أن تنطلق الثورة على القذافي من بنغازي، وليس من طرابلس.
بموازاة النظام الجماهيري الذي كانت المفارقة فيه أنه لم يكن يسمح بالتعبير للمجتمع والحرية سوى لمنشأة تجارية القذافي فحسب, مثل النفط الذي يبلغ الإنتاج الليبي اليومي منه إلى 1.3 ملايين برميل، الوسيلة التي استخدمها القائد الليبي لتلبية وإنجاز طموحاته الوحدوية العربية تارة, والأفريقية تارة أخرى، والتي عكست بشكل غير مباشر مسعى منه لعلاج الخلل الجيواستراتيجي للجمهورية ذاته، عبر الالتحام بامتدادات جغرافية وكيانات سكانية كثيفة.
لقد أنفق القذافي المكاسب النفطية على سياساته الثورية في الوحدة العربية, بمثابة أنه ينظر لنفسه كوريث لعبد الناصر في التوجهات الوحدوية العربية, بيد أن تجاربه في ذلك الصدد فشلت, لأن منطقه كان يرى بداية الوحدة باندماج سياسي قبل مورد رزق أرضية تساعد اقتصادي مشترك، ودفعت ليبيا قيمة ذاك عداوات إقليمية خاصة مع جارتها مصر تارة وتونس تارة أخرى, فضلا على مغامراته العسكرية الخاسرة في تشاد وتدخلاته في الشئون الداخلية للدول الأفريقية.