تفسير كلمة الإسراء والمعراج في الحلم … إن ترك المألوف قضى متعب على الناس، خصوصا إذا رسخ في اعتقادهم وتمكن من قلوبهم، ولو كان هذا مخالفًا للحق أو كان عين الضلال، فلم يهن عليهم أن يتركوه؛ ولهذا آتيكم بمسألة مأمورية أرجو تصريحها بالحق اليقين، وما في أعقاب الحق إلا الضلال الموضح، وهي: موضوع المعراج، فهل وافقتم حضرة الفاضل الطبيب محمد فوز أفندي صدقي في قوله: فالأرجح عندي أن المعراج كان حلم منامية كما قلنا، وفي تلك المنام فرضت الصلوات الخمس؛ لأن رؤيا الأنبياء من الوحي كرؤيا إبراهيم أنه يذبح نجله. اهـ.n-today.com
تفسير كلمة الإسراء والمعراج في الحلم
وهل ورد في العام الصحيحة أن رؤيا الأنبياء دعوات الله عليهم تجسد شرعًا، وأنها من الوحي مثلما قال حضرته؟ إنني أول من يسارع إلى رضى قوله: ولو كان المعراج حصل ليلة الإسراء، وقد كان جسدانيًا مثله لذكر برفقته في سورته، فإنه أعجب وأغرب وأدل على القدرة الإلهية من الإسراء. اهـ.
فإن عروجه عليه الصلاة والسلام ببدنه الشريف إلى السموات، الأمر الذي يؤيد حجته عليه الصلاة والسلام على المكذبين له في إخباره إياهم بالإسراء.n-today.com
ولكن أشكل عليّ ما رواه الشيخان ونقله القاضي عياض في شفائه عن أنس بن مالك رضي الله سبحانه وتعالى عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ وَهُوَ دَابَّةٌ، فَوْقَ الْحِمَارِ، وَدُونَ الْبَغْلِ يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ، قَالَ: فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي يَرْبِطُ بِهِ الأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجْتُ، فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ، ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِآدَمَ فَرَحَّبَ بِي، وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ» الحديث.
فما قولكم في هذا الحديث أيحتج به أم لا؟ فالمرجو من فضلكم إيضاح الحقيقة، فإن ما أفاد به حضرة الطبيب مما نخاف ذكره لدى عامة المسلمين، خصوصًا لدى مسلمي جاوه والملايو، فإنهم يتخذون ما نعت وتصوير لهم من أن السموات خلقت من حديد ونحاس وفضة وياقوت وزبرجد و… و… واعتقادًا مصرح بهًا، وإيمانًا صادقًا.n-today.com
اختلف علماء السلف والخلف في الإسراء والمعراج، أكانا بالروح والجسد أم بالروح ليس إلا، وفي اليقظة أم في الرؤيا، وقد كنا من أول العهد بالتمييز نسمع ذكر ذلك الخلاف في المساجد حالَما تقرأ قصة المعراج في الليلة السابعة والعشرين من رجب كل سنة. وإذ كانت الموضوع خلافية فما على المفتش من طريق إذا ظهر له رجحان واحد من الأقوال أن يقول به، وسبق لنا ذكر هذا القول في المجلد الأضخم من المنار. وقد رجح قليل من المحققين أن الإسراء ذاته كان روحانيًا فما بالك بالمعراج؟
قال ابن القيم في كتابه ارتفع المعاد في هدي خير العباد[2] ما نصه: «فصل» وقد نقل ابن إسحق عن عائشة ومعاوية أنهما قالا: إنما كان الإسراء بروحه ولم يفقد جسده، ونقل عن الحسن البصري صوب ذلك. غير أن يجب أن يعلم التفاوت بين أن يقال كان الإسراء رؤياًا، وبين أن يقال كان بروحه دون جسمه، وبينهما فرق كبير. وعائشة ومعاوية لم يقولا كان حلمًا وإنما قالا أُسري بروحه ولم يفقد جسده، وفرق بين الأمرين، فإن ما يراه النائم من الممكن أن يكون أمثالًا مضروبة للمعلوم في الصور المحسوسة، فيرى النائم كأنه قد عرج به إلى السماء أو ذهب إلى مكة وأقطار الأرض، وروحه لم ترتقي ولم تذهب وإنما ملك الرؤيا ضرب له المثال.n-today.com
«والذين قالو : عرج رسول الله صلى الله عليه وسلم طائفتان، طائفة صرحت: عرج بروحه وبدنه، وطائفة تحدثت: عرج بروحه ولم يخسر بدنه. وهؤلاء لم يريدوا أن المعراج كان حلمًا، وإنما أرادوا أن الروح نفسها أسري بها وعرج بها حقيقة، وباشرت من جنس ما تباشر بعد المفارقة، وقد كان شأنها في ذاك كحالها في أعقاب المفارقة في ازديادها إلى السمواتِ». اهـ. وأطال في كلام الفرق، وأوضح فيه حل إبهام في حديث المعراج، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى موسى في قبره بالكثيب الأحمر (من أرض فلسطين)، ورآه في السماء السادسة، ولم يعرج جسد موسى من قبره إلى السماء، وإنما تلك روحه صلى الله عليه وسلم.
هذا وإن من أدلة القائلين بأن المعراج كان منامًا حكاية شريك في صحيح البخاري، فإنه يقول في أحدث الحديث: «ثم استيقظت» والذين لا يقولون بهذا يغلطون قصة شريك، ومن ضمنهم من يقول بتعدد المعراج، أفاد ابن القيم[3]:
(فصل) قال الزهري: عرج بروح رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزل المقدس وإلى السماء قبل خروجه إلى البلدة بسنة. وصرح ابن عبد البر وغيره: كان بين الإسراء والهجرة سنة وشهران. اختتم. وكان الإسراء مرة واحدة، وقيل مرتين: مرة يقظة ومرة رؤياًا. وأرباب ذلك القول كأنهم أرادوا أن يجمعوا بين حوار شريك وتصريحه: «ثم استيقظت» وبين مختلَف الروايات. ومن ضمنهم من أفاد بل كان ذلك إثنين من المرات: مرة قبل أن يوحى إليه ومرة عقب الوحي. كما دلت أعلاه عموم الأحاديث، ومن بينهم من صرح لكن ثلاث مرات: مرة قبل الوحي ومرتين بعده، وكل ذاك خبط. وهذه كيفية ضعفاء الظاهرية من أرباب النقل الذين إذا رأوا في الرواية لفظة تخالف سياق بعض القصص جعلوه مرة أخرى، فكلما اختلفت عليهم الروايات عددوا الوقائع». إلى أن قال حتى الآن تعجب من القائلين بالتعدد مما يلزمه من القول بتعدد إنفاذ الدعاء: «وقد غلط الحفاظ شريكًا في ألفاظ حديث الإسراء.ومسلم أورد المسند منه ثم أفاد: فقدم وأخر وازداد ونقص» اهـ. أقول: وفي قصص حديث المعراج عدم اتزان واختلاف عديد طالما ردوا ما حدث فيه مثله.n-today.com
وحديث أنس الذي لفت إليه السائل لا يسلم من القلق والاختلاف الذي قلناه، ولا يتسع هذا الجواب لبيان هذا ومقابلته بالأحاديث التي منعوا الاحتجاج بها لاضطرابها واختلاف رواياتها اختلافًا لا يقبل الجمع إلا بتكلف وتسليم ما إستقبل به النفس، ولا يصدقه الذهن كقول بعضهم: إن المعراج متنوع كان بعضه يقظة وبعضه رؤياًا، ولا يمكنه عاقل أن يقبل أن يتعدد إنفاذ الله الدعاء على نبيه 50، ومراجعته فيها حتى يجعلها خمسًا مرارًا متعددة. ولذلك اضطر بعض المحققين إلى الجزم بأن عدد محدود من روايات الصحيحين في المعراج غلط. ولعلنا نبين القصص عامتها ووجوه الاختلاف والاضطراب فيها في مقال مخصوص في تلك المسألة.